تفسير سورة العصر
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألته عن قول الله سبحانه: ? والعصر إن الإنسان لفي خسر ? ؟
فالعصر: قد يكون من آخر النهار، ويكون الدهر، فَأَشْبَهُ ذلك - والله أعلم بالتأويل، وما يصح فيه من الأقاويل - أن يكون العصر الذي بعد الظهر، لا العصر الذي من الدهر، وإن كان كل ذلك وقتا، وكان ذلك لكلا الوقتين نعتا، كان أفضل الأوقات، ما كان لصلاة من الصلوات، وكان تأويل القسم به أشبه، وأفضل وأوجه، والله أعلم وأحكم.
وكان تأويل أنه قسم كما أقسم بالفجر، والليالي العشر، لفضلهما وقدرهما، وما ذكر الله من أمرهما.
والعصر والأعصار من النهار، فهو بعد الظهر والإظهار، وإذا كان الدهر وقتا كله، كان ما كان منه للصلوات هو أفضله، والأفضل هو الأولى بالتقدم، في القسم وغير القسم.
وأما تأويل الخسر، فهو النقص في الخير والبر، ولم يكن من الناس في خير ولا بر، فهو كما قال الله عز وجل: ? لفي خسر ?، وكل الناس فغير مفلح ولا رابح، إلا من عمل لله بعمل صالح، كما قال سبحانه: ? إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ?.
وتأويل الإيمان، فترك كبائر العصيان.
وتأويل: ? وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ? فهو: عملهم لله صالحات، وهي أولى الأعمال بهم، لما فيها من رضى ربهم، وصلاحهم وصلاح غيرهم.
وتواصيهم بالحق: فهو تآمرهم بطاعة الحق. وتواصيهم بما ذكر من الصبر: هو تآمرهم بالمقام على البر، وعلى ما يعارضهم في المقام عليه من اليسر والعسر، وما يقاسون فيه من منابذة المبطلين، ومن ليس بمراقب ولا متق لرب العالمين، من الفجرة المستهزئين، والجورة المتغلبين المتمردين.(2/374)
تفسير سورة التكاثر
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألته عن قوله سبحانه: ? ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر ? ؟
فـ[قال:] تأويل ? ألهاكم ?: هو أغفلكم عما عليكم في المعاد، ولكم بما أنتم فيه من تكاثركم بالولد والمال والعشائر، وتفاخركم بما في ذلك عندكم من الخيلاء والمفاخر، ولذلك وبه شغلوا، وألهوا فغفلوا، بكدهم فيه، وكدحهم وتكالبهم عليه، وشحهم عن رشادهم، وتيقن معادهم، ولما في التكاثر بالأموال، وما في التشاغل بالتكاثر من الأشتغال، طهر الله منه خيرته من الرسل والأبرار، فلم يكونوا بأهل مكاثرة ولا بتُجَّار.
وتأويل ? زرتم المقابر ? هو مصيرهم إليها، واتصالهم بالآخرة وإشرافهم عليها.
وتأويل ? كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون، كلا لو تعلمون علم اليقين ?، هو تكرير من الله تبارك وتعالى في ذلك كله عليهم للتعريف والتبيين، ألا ترى كيف يقول سبحانه: ? لترون الجحيم، ثم لترونها عين اليقين ?، يقول جل ثناؤه: لترون ما وعدتم منها رأي العين عين يقين.
وتأويل ? ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ? هو: لتوقفن حينئذ على ما كنتم فيه قبل متوفاكم، وفي حياتكم ودنياكم، من النعيم، والمن العظيم، الذي كانوا يتنعمون به في الحياة الدنيا وبقائها، وقبل ما صاروا إليه من الآخرة وشقائها. وليس مما نزل الله عز وجل من آياته في هذه السورة، ولا غيرها طويلة ولا قصيرة، إلا وفيها بمن الله دلالات خفية باطنة وظاهرة منيرة، ففي أقل ظاهرها ما كفى وأغنى، وفي خَفِيِّهَا من الحكمة والبركة ما لا يفنى.(2/375)
تفسير سورة القارعة
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألته عن قول الله سبحانه: ? القارعة، ما القارعة، وما أدراك ما القارعة ? ؟
فالقارعة: ما هال من الأمور وقرع، وهجم على أهله بغتة بأهواله فأفزع.
وأما تأويل ما أدراه، فهو: تعظيم منها لمرآه، وما سيعانيه فيها ويراه، من الأهوال والأمور الفادحة، وجزاء الأعمال الصالحة والطالحة، حين تقوم القيامة، وتدوم الحسرة والندامة، على كل خائب وخاسر، وظالم معتد فاجر، ألا تسمع كيف يقول سبحانه عند بعثه فيها لخلقه المبعوث: ? يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ?، وتأويل ? يكون ? فهو يصير، والفراش فَطَيرٌ صغير خفيف عند من يراه حقير، من همج الأرض والطير، تُمثِّل به العرب في الكثير، لأنه كثير ضعيف، وطير محتقر خفيف، فتقول إذا استكثرت شيئا أو استضعفته، واستقلت وزنه فاستخفته: ما هذا إلا كالفراش في الخفة والقلة، وللقوم إذا استكثروهم كالفراش في الكثرة والجمَّة.
وانبثاثه: فهو انبعاثه متحيرا وطائرا في كل وجهة من الجهات، يموج ويصدم بعضه بعضا في تلك الوجوه المختلفات، فمثَّل الله سبحانه الناس في يوم البعث، بما وصفنا من الفراش المنبث، الذي يموج بعضه في بعض، ويسقط تهافتا على الأرض، لما ذكرنا من كثرته، وموجه وحيرته، واختلاف جهاته، ويومئذ يدعوهم من تلك النواحي المختلفات الداع، فيستجيبون لدعوته كلهم جميعا باستماع، كما قال سبحانه: ? يومئذ يتبعون الداعي لاعوج له ? [طه: 108]، تأويلها: لا اختلاف لهم بعدُ معه، كما كانوا يختلفون في المذاهب قبل دعائه، وما سمعوا وهم في حيرتهم من ندائه، كما قال سبحانه: ? واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب ? [ق: 41] وهو يوم الإصاخة بالأسماع، لتسمع صوت المنادي الداعي، وفي ما ذكرنا من هذه الإصاخة، ما قيل في يوم الصاخة: ? فإذا جاءت الصاخة، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ? [عبس: 33 - 37].(2/376)
وتأويل: ? وتكون الجبال كالعهن المنفوش ? فالعهن: هو الصوف الناعم اللين الذي ليس يُقرد، وذلك من الصوف فما يلين للنفش في اليد، وينتفش ويتجافى، ويعود خفيفا أجوفا، وقد تفرقت أجزاؤه، وبان جفاؤه، فعاد قليله كثيرا، وصغيره كبيرا، لتحلله وتمزقه، وتزايله وتفرقه، كذلك تبلى الجبال إذا بليت، وتفنى يوم القيامة إذا فَنِيَت، فتكون كالسراب الرقراق، في الفناء والتهيء والإمتحاق، وفي جزاء الأعمال، بعد تلك الأهوال، يقول الله سبحانه: ? فأما من ثقلت موازينه ?، تأويلها: من ثقل في الوزن بره وإحسانه، فسعد بثقله، وثَقُلَ بعمله.
وتأويل ? في عيشة راضية ?، فهو في عيشة مرضية زاكية، وإنما يعرف أمر الخفة يومئذ واليوم والثقل، بما يعرف منها اليوم في الحال والقدر والعمل، وليس نعلم الخفة والثقل يومئذ في المقادير والأوزان، بمثاقيل يوزن بها من خف وثقل وجِرمان ولكنه يعرف - والله محمود - بما ذكرنا من العبرة والبيان، وما تعرفه العرب العاربة في اللغة واللسان.
? وأما من خفت موازينه ?، فتأويله: من خف به فسقه وعدوانه. ? فأمه هاوية ?، تأويل أمه: فهو من مصيره ومهواه، ألا تسمع كيف يقول سبحانه: ? وما أدراك ماهيه، نار حامية ? فكانت النار الحامية التي صار إليها، أمه التي نسبه الله إليها ؛ إذ كانت له مقرا ومأوى، وَقَرَّ بِهِ فيها المصيرُ والمثوى، والنار الحامية: فهي التي لا يطفيها مطفيه، ما كانت باقية أبدا، و التي من دخلها كان فيها مخلدا.(2/377)
تفسير سورة العاديات
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألت أبي رحمة الله عليه عن قول الله سبحانه: ? والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا ? فالعاديات: من كل ذات ظلف، أو حافر صلب أو خف: من كل بهيمة جِنِّية، وحشية أو إنسية.
وتأويل قوله: ? صبحا ?، فهو: عدوا ومرحا، و? الموريات قدحا ? فهو: ما يورين ويقدحن، إذا عَدَونَ وضبحن، بصلابة الأظلاف، والحوافر والأخفاف، من نار الحجارة والحصى، والأرض الصلبة الخشنى، فيورين النار من ذلك كله بإيقاد، كما تُورَى وتُقْدَحُ النارُ بالزناد.
و? المغيرات صبحا ? فيما أرى - والله أعلم - خاصة الخيل، بينهن وبين غيرهن من ذوات الحافر في العَدْو والقدر واليُمن من الفرق النَّيِّر الجليل، ولخاص ما فيهن من النعمة والبركة والخير، قُدِّمن - إن شاء الله - في الذكر على البغال والحمير، فقال الله سبحانه: ? والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون ? [النحل: 8].
وتأويل ? فأثرن به نقعا ? والنقع: هو الغبار المثار ? فوسطن به جمعا ? هو: توسطهن بغبارهن للجمع الذي عليه كان المغار.
وتأويل ? إن الإنسان لربه لكنود ?، هو الكافر لنعم الله بكبائر عصيانه الفاجر العنود.
وتأويل: ? وإنه على ذلك ?: من حاله وعدوانه، ? لشهيد ? لربه بنعمته وإحسانه، ما يرى عليه من النعمة والإحسان، وما بيَّن فيه من حسن الصنع والإتقان، وتأويل ? وإنه لحب الخير لشديد ?، فهو: أنه لمحب للخير مريد، لا يضعف فيه ضعفه في غيره، من طاعة الله ودينه وأمره، وكفى بذلك فيه شرا، ومنه لربه فيه كفرا، ? أفلا يعلم إذا بعثر مافي القبور ? من عظام الموتى، ? وحصل مافي الصدور ? مما يبطن اليوم من غير الله ويخفى، وما سيظهر حين يحاسب كل امرئ ويجزى، ? إن ربهم بهم يومئذ لخبير ? يومئذ يوم البعثرة والتحصيل ? لخبير ?، لا يخفى عليه منهم يومئذ خيِّر ولا شرِّير، وكما لا يخفى عليه اليوم من أعمالهم صغير ولا كبير.(2/378)