تفسير سورة قريش
بسم الله الرحمن الرحيم
? لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ? المعنى: هو إِلْفُهُم وإِيلافُهُم فقريش من أنفسهم وحليفهم، ومن جاورهم في الحرم ولفيفهم، فكل من كان يسكن في الحرم في مسكنهم، ويأمن بمكانه معهم في الحرم بأمنهم، ويرحل معهم إذا أراد أمْناً الرحلتين، وينتقل معهم الطعام والإدام في السنة نقلتين، لا يعرض لهم أحد من العرب بقطع في الطريق، وليسوا في شيء مما فيه غيرهم من الخوف والضيق، والعرب كلهم خائفون جياع، وهم كلهم آمنون شباع، لحرمة البيت عند العرب وتعظيمه وإجلاله، ولإِكْبَارِهم القطع على سكان الحرم ونُزَّاله، فذكَّرهم في ذلك تبارك وتعالى بنعمته، وبما مَنَّ به تعالى من بركة الحرم وحرمته.
وفي ذلك وذكره، وما ذكرنا من أمره، ما يقول الله سبحانه: ? أولم نمكن لهم حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ? [القصص:57]، وفيه ما يقول الله سبحانه: ? أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ? [العنكبوت: 67].
وتأويل ? فليعبدوا ?، هو: فليوحدوا، ومعنى ليوحدوا: فهو ليخلصوا، ومعنى ليخلصوا: فهو ليفردوا بعبادتهم، وليخصوا ? رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ? الذي بمكانهم منه، وبما كان من مجاورتهم له، أُطعِمُوا من جوع، وأُومنوا من خوف، فلم يجوعوا جوع الجائعين، ولم يخافوا خوف الخائفين، فكلهم يعلم ويقول: إن البيت بيت الله ذي الجلال والإكرام، لا بيت ما عبدوا دونه من الملائكة والأصنام، وأن الله سبحانه هو الذي حرَّم الحرم، وجعل له تبارك وتعالى الجلالة والكرم، لا الملائكة المقربون، ولا الأصنام التي يعبدون، فأمرهم جلَّ ثَنَاؤُهُ أن يعبدوه وحده، وأن يوجبوا شكره وحمده، على ما صنع لهم وأولاهم، ووهب لهم بحرمة بيته وأعطاهم.(2/369)
تفسير سورة الفيل
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألته عن قول الله سبحانه: ? ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيرا أبابيل ?.
معنى ? تر ? في مخرج التأويل: ليس هو برؤية العين، ولكنه علم اليقين ؛ لأن رسول الله صلَّى الله علَيهِ وآله وسلم لم ير ذلك بعينه، ولكنه رآه بعلمه ويقينه، وبما ذكر الله جلَّ ثَنَاؤُهُ عنه، وبما وصفه الله به منه، وسواء قيل: ألم تر، أو قيل: ألم تعلم، معناهما واحد في اليقين و العلم.
وتأويل ? كيف فعل ربك ? هو كيف صنع، وأصحاب الفيل: فهم من جاء معه، أو بعث به وإن تخلف عنه، فكل من كان للفيل صاحبا، مَنْ بَعَثَ وإن لم يصحبه ومن كان له مصاحبا.
وتأويل ? كيدهم ?، فهو إرادة مريدهم، والإكادة: فهي الإرادة، كما قال الشاعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة لولا الوشاة بأن نكون جميعا
وذلك أن أصحاب الفيل كادوا، ومعنى ذلك: هو أرادوا، أن يخربوا الكعبة، ويجعلوها متهدمة خربة، لأن العرب خربت كنيسة كانت يومئذ للحبشة، وكان يومئذ فيهم وملك عليهم رجل من العرب من أهل اليمن يقال له: أبرهة بن الصباح، وكان يدين دينهم، فهو الذي بعثهم، فأرسل الله سبحانه على أصحاب الفيل كما قال تبارك وتعالى: ? طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول ? لا يصيب حجر منهم أحدا إلا قتله وأهلكه، ولم يكن له بقاء معه ولا بعده، والطير الأبابيل فهي الطير الكبير الأراعيل، التي تأتي من كل جهة، ولا تأتي من ناحية واحدة، والسجيل: فهو فيما يقال: الطين، المستحجر الصلب الذي ليس فيه لين، فهو لا يقع على شيء إلا حطمه، وفَتَّهُ وهشمه، وجعله كما قال الله سبحانه كالعصف المأكول، والعصف: فهو عاصفة قصب الزرع البالي المدخول، الذي قد دُخل وأُكل، وتناثر وتهلهل، والمأكول منه فهو الذي لا جوف له، والذي قد أنهت جوفه كله.(2/370)
تفسير سورة الهمزة
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألته عن قول الله سبحانه: ? ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده، يحسب أن ماله أخلده، كلا لينبذن في الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة ? ؟
فتأويل ما ذكر الله من الويل: ما يعرف من الحرقة والعويل، و الخزي الكبير العظيم الجليل، والهُمَزَةُ من الناس: فهو من يغتاب صاحبه ويغمزه، والهُمَزَة واللُّمَزَةُ: فهو الذي يعيب حقا أو محقا ويهمزه، والهمزة: فهو الباخس المغتاب، واللمزة: هو الهامز العياب. وجمعه للمال: فهو اكتنازه له واجتهاده، وتعديده له: فهو إرصاده له وإعداده، بما في يده من ماله، لما يخشى من نوائب حاله.
وتأويل ? يحسب ? هو أيحسب استفهاما وتوقيفا، وتبيانا له وتعريفا، على أن ما جمع وأعد من مال، لنوائب مكروهه بحال، لن يخلده فينقذه، ولن يدفع عنه، ويقيه ما يخشى ويتقي من مكروه النوائب، كيف وهو لا يدفع عنه من الموت أكبر المصائب ؟! لا ينتفع عند الموت به، ولا بكده فيه وكسبه، وكذلك كلما أراده الله به من ضر سوى الموت، فليس يقدر له بجمع ماله وإعداده على خلاص ولا فوت، في عاجل دنياه، وكذلك هو في مثواه، يوم القيامة، إذا نبذ في الحطمة، ونبذه فيها، إلقاؤه إليها، والحطمة: فهي الأكول لأهلها باستعارها وحرها، وهي النار التي جعل الله وقودها كما قال سبحانه بما جعل من حجارتها وأهلها في قرارها، وفي ذلك ما يقول تبارك وتعالى للمنذرين: ? فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ? [البقرة: 24]، فنار الآخرة جعلت نارا، فطرها الله يومئذ افتطارا، من غير حديد ولاحجر ولا شجر، ولا أصل لها قبلها مفتطر، كما نراه من هذه النار، التي جعل أصلها من الحجر والأشجار، كما قال سبحانه: ? أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ? [الشعراء: 71 – 72].(2/371)
ولو كانت نار الآخرة كهذه النار، لكان وقودها بما توقد هذه النار من أشجار، ولكن الله عز وجل جعل أصلها، حجارتها التي فيها وأهلها، فتوقدت واستعرت لذلك بهم، كما يوقد أهل هذه النار نارهم بحطبهم، فأهلها حطبها، كما هم حصبها، كما قال الله سبحانه: ? إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ? [الأنبياء: 98]، فأهل جهنم بخلودها، ودوام وقودها، فيها خالدون، لا يفنون أبدا ولا يبيدون، كما يعود الحطب رمادا خامدا، ورفاتا جامدا، كذلك تعود جلود أهل النار - نار الآخرة - رفاتا، وشيئا هامدا باليا مايتا، فيجدد الله ذلك بعد بلائه وتهافته تجديدا ؛ ليخلد الله بالتجديد له أهل النار فيها تخليدا، كما قال سبحانه: ? كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ? [النساء: 56]، فنار الآخرة أبدا بحجارتها وأهلها موقدة، وحجارتها وجلود أهلها كلما بليت فمعادة، تقدير من عزيز حكيم، لبقاء عذاب الجحيم.
وتأويل قوله: ? تطلع على الأفئدة ?، فهو: ما يصل إلى قلوب أهلها من الكرب والشدة، وتأويل ? إنها عليهم موصدة ?، فهو: مطبقة مغلقة، وإغلاق جهنم فهو ما ذكر الله عز وجل من أبوابها، والإيصاد للأبواب الذي هو التغليق عليهم فهو من شدة عذابها، وما ذكر الله من الإطباق والغلق: فهو أكبر الغَمِّ والألم والحرق، كما قال سبحانه: ? كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ? [السجدة: 20].(2/372)
وتأويل ? في عمد ممددة ?، بعد ذكره تبارك وتعالى المؤصدة، فهو: ما يغلق به أبواب جهنم المؤصدة المطبقة، في عَمَد معروضة على أبوابها ممددة، كالمهاج والأوصاد التي تجعل على الأبواب المغلقة، ونحو ذلك من الأغلاق، والغلق: فأوثق ما يغلق به كل مُغِلق أراد إغلاق الباب، وذلك أنه يأخذ ما في طرفي المغلق كله، وليس يأخذ ذلك من الإغلاق كلها غلق، وإنما يغلق كل غلق من الأبواب ما يغلق، إن كان قفلا، فإنما يغلق واسطة الأبواب، وإن كان غير ذلك فإنما يغلق جانبه من كل باب، فأما المهج والرصد فيغلق الباب كله، ويستقصى في الغلق آخره وأوله، ولاسيما إذا كان ممتدا ثابتا، مهجا كان أو رصدا، فأبواب جهنم وأغلاقها كلها، كالمقامع التي ذكر الله من الحديد لا تبيد، كما مقامع أهلها فيها إذا أرادوا أن يخرجوا منها حديد، كما قال سبحانه: ? ولهم مقامع من حديد ? [الحج: 21]، ألا فسبحان من جمع في جهنم ما جمع من أنواع الخزي والضيق للظلمة الملحدين !! فقيل في يوم البعث لهم جميعا: ? ادخلوا أبواب جهنم خالدين ? [الزمر: 72].(2/373)