أولا تسمع يا بني وترى، أنَّه لم يزعم أنَّه رب لغيرهم من أهل القرى، التي لا ملك له عليها، ولا سلطان له فيها، فلما لم يوقن بغيره، ولم يستدل على الله بتدبيره، وكذَّب من الله بما لم تره عيناه، وكان كل مَنْ صَدَّقَه مثلَه لا يوقن إلاَّ بما عاينه ورآه، وما كان لذلك مثلاً ونظيراً، قال أنا ربكم ومليككم ولم يدَّعِ لهم صنعاً ولا تدبيراً، صِغَراً منه وتضاؤلاً عن تلك ودعواها، فلما صغر عنها وتضاءل كان ادعاؤه لسواها، مما يدخل به وفيه غلط وامتراء، وما يمكن في مثله له عندهم الإدِّعاء، ولو ادعا فيهم خلقاً، أو انتحل لهم رزقاً، لما اعترتهم في كذبه مع تلك مِرية، ولا أعمتهم من الشبهة في أمره مُعمية، ولكنهم لما لم يوقنوا بالله وتدبيره، ولم يقروا إلاَّ بما رأوا مثله من فرعون وغيره، وأنكروا ما لم يروا أو يكون مثلاً لما رأوا فدفعوه، جاز عندهم لفرعون ولهم في فرعون ما ادعوه، فنحمد الله الذي حَسَّر كل من أيقن أو تحيَّر عن أن يدعي من صنعه وإن جهله صنعاً، فيكون فيه لشبهة أو تحيُّرٍ لمبطل مُدَّعا، وإن كان أثر التدبير فيه بأنه صنعٌ مصنوعٌ بادياً، وكان هدى الله فيه لمن لم يهتد إليه بالهدى منادياً، فنداؤه بإحداث الله له أعلى من كل علي، وَتَبدِّيه بأنه صنع لله وتدبيرٌ أَبْدَى من كل جلي، فتبارك الله أحسن الخالقين خلقاً، وأحق جميع الحقائق متحققاً، الذي لم يزل ولا يزال، ومن له الكبرياء والجلال، رب الأرباب المعظمة، وولي كل إحسان ونعمة، الأول الذي ليس كمثله شيء وهو القوي العزيز القهار الغلاب، ? رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ? [آل عمران:8]. وصلِّ على جبريل أمينك وعلى ملائكتك المصطفين، وعلى محمد رسولك وعلى جميع الرسل والنبيين، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد خير خلقه أجمعين، وأهله الطاهرين وسلامه.(1/76)


تم كتاب الدليل على الواحد الجليل.(1/77)


الدليل الصغير
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو محمد الحسن بن القاسم رضي الله عنه:
سألت أبي رضي الله عنه عن الحجة على من أَلْحَدَ في الله تمرداً، وجهل المعرفة بالله حيرةً وتلددا، فظن أنه موقن بمعرفة رب الأرباب، وهو من ظنه لذلك في مرية وحيرة وارتياب، فكثيرٌ أولئك، ومن هو كذلك، وإن هو لم يظهر ما في قلبه، من الحيرة والجهل بربه، جل جلاله وسلطانه، وظهر دليلُ الإيقانِ به وبرهانه ؟!
فقال: إنما يُستدل يا بني: على إيقان الموقنين، بمعرفة رب العالمين، بطاعتهم لله وتقواهم، فبهما يُعرف يقينهم بالله وهداهم.
ولذلك يا بني وفيه، من الدلائل عليه، قول الله سبحانه ( لرسوله، صلى الله عليه وآله: ? وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ? [التوبة:105]. وقوله سبحانه: ) ? إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ? [الحجرات:15]. وقوله سبحانه: ? إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون ? [السجدة:15 – 16]. وآياته سبحانه فهي وحيه وتنزيله، وشواهد الإيقان به ودليله، والإيمان فمن الإيقان، وهو الأمان من كبائر العصيان. وأكبر الكبائر عند الله، وعند الصالحين من خلق الله، فهو الإنكار لله، والإلحاد في الله، والارتياب في معرفة الله.
وفي ارتياب المرتابين، وصفة الله للمؤمنين، ما يقول أرحم الراحمين: ? لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين، إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهو في ريبهم يترددون ? [التوبة:44 – 45].(1/78)


وفي الحيرة والمرية والشك والارتياب، ما يقول سبحانه لأهل إضاعة طاعته والغفلة والتقصير والألعاب : ? رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، لا إله إلا هو يحي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين، بل هم في شك يلعبون ? [الدخان:7 – 9]. فأخبر تبارك وتعالى بلعبهم، عن شكهم في ربهم، ودل بذلك على أن من اشتغل عن طاعة الله بلعبه، فليس من الموقنين مع ذلك بالمعرفة بالله ربه.(1/79)


[التفكير طريق المعرفة بالله]
وفي قلة اليقين بالغيب، وما يعرض للجاهلين فيه من الريب، ما يقول الله سبحانه فيما قص من نبإ قوم نوح وعاد وثمود وآدم وقوم لوط وأصحاب الأيكة، وما أحل بهم بعد ما أراهم من الآيات والدلالات البينات من التدمير والهلكة، ? إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ? [الشعراء :190–191]. ففي كل ما قص الله من ذلك لمن يعقل فيوقن بيان من الله فيما ذكرنا من قلة اليقين وتعريف وتفهيم، واليقين بالغيب فإنما يكون، بما يدركه الفكر لا بما تدركه العيون، فمن لم يفكر بقلبه فيما غاب عنه، لم يؤمن أبدا بشيء منه.(1/80)

16 / 201
ع
En
A+
A-