[تفسير قصار السور]
تفسير سورة الحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام:
? الحمد لله ?، تأويل: ? الحمد لله ? فهو الشكر لله ( على نعمه وإحسانه، والتحميد لله والثناء عليه )، ومن الحمد قيل: محمود وحميد، كما يقال من الجود: جواد ومجيد.
والله لا شريك له، فهو الذي تأله إليه القلوب، ويستغيث به في كل كرباته المكروب، واليه يجأر الخلق كلهم جميعا ويألهون، وإياه سبحانه يعبد البررة الأزكياء ويتألهون، دون كل إله ورب ومعبود، وإياه يحمدون في كل نعمة قبل كل محمود.
وتأويل: ? رب العالمين ? فهو: السيد المليك، الذي ليس معه فيما ملك مالك ولا شريك.
وتأويل قوله سبحانه: ? العالمين ? فيراد به الخلق أجمعون، الباقون منهم والفانون، والأولون منهم والآخرون.
وتأويل: ? الرحمن ?، فهو: ذو الغفران والمن والإحسان.
وتأويل: ? الرحيم ?، فهو: العفوُّ عن الذنب العظيم، والناهي عن الظلم والفساد، لما في ذلك من رحمته للعباد، ضعيفهم وقويهم، وفاجرهم وبَرِّهم.
وتأويل ? ملك يوم الدين ? فهو: مالك أمر يوم الدين، الذي لا ينفذ أمر في ذلك اليوم غير أمره، ولا يمضي فيه حكم غير حكمه، والمَلِكُ : من المُلْكِ، والمالك: من المِلْكِ، وهما يقرءآن جميعا، وكلاهما معا ( فلله، فهو يوم الجزاء والثواب والعقاب، وإنما سمي الدين لما يدان أي يجازى ) قال: معنى يوم الدين فهو يوم يدان العاملون أعمالهم، ويجزون يومئذ بهداهم وضلالهم.
? إياك نعبد ? فهو: نوحد ونفرد.
? وإياك نستعين ? نسأل العون على أمرنا، وتوفيقنا لما يرضيك عنا.
? اهدنا ? وفقنا وأرشدنا.
? الصراط المستقيم ? والصراط: هو السبيل، الذي ليس فيه زيغ ولا ميل، قال جرير:
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم(2/354)
و? المستقيم ? فهو الطريق الواضح الذي افترضه الله إلى الطاعة، المعتدل الذي ليس فيه عوج ولا ميل، فهو لا يجور بأهله عن قصده، ومنه قوله تعالى: ? ولا تقعدوا بكل صراط توعدون? [الأعراف: 86].
? صراط الذين أنعمت عليهم ? يقول: طريق الذين أنعمت عليهم من عبادك الصالحين، الذين وفقتهم وهديتهم لرشدهم.
? غير المغضوب عليهم ? تأويل ذلك غير المغضوب عليهم منك.
? ولا الضالين ? يقول: ولا صراط الضالين بالهوى والعمى عنك، لأنه قد ينعم جل ثناؤه في هذه الدنيا على من يضل عنه ومن لا يقبل ما جاء من الهدى والأمر والنهي، ولمن يغضب جل ثناؤه عليه من الكافرين، يقول: اهدنا صراطا غير صراط الذين غضبت عليهم، والمغضوب عليهم في هذا الموضع: فهم اليهود ? ولا الضالين ? يقول: ولا صراط الضالين، والضالون: فهم في هذا الموضع النصارى.(2/355)
تفسير سورة الناس
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: ? قل أعوذ برب الناس ? ( هذا أمر من الله لنبيه أن يتعوذ، وأن يقول هذا القول، ومعناه: أستجير وألوذ برب الناس )، فالرب: هو السيد المليك ( مالكهم وفاطرهم، والقادر عليهم والرازق لهم ).
? ملك الناس ? والملك: فهو الذي ليس له في ملكه شريك معارض.
? إله الناس ? والإله: فهو الذي تأله إليه ضمائر القلوب، وهو الرب الذي ليس بصنع ولا مربوب.
وتأويل ? من شر ?، فهو: من كل مفسد مضر. وتأويل ? الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس ? فهو: ما وسوس في الصدور ? من الجنة والناس ? والموسوس فقد يوسوس، بحضوره في الصدور ويخنس، وقد تكون الوسوسة من الموسوس في الصدر، ما يكون فيه من الذكر والخَطْرِ. وخنوس الوسواس مفارقته وغيبته عن الصدور، ووسوسته فما ذكرنا من الخطر والحضور، وما ذكر الله عز وجل في ذلك من الوسواس، فقد يكون كما قال الله سبحانه: ? من الجنة والناس ?، والناس ( فهم الآدميون فأمر الله نبيه أن يتعوذ من شر شياطين الجن والأنس، وشر شياطين الجن والإنس فهم المغوون المردة الملاعين من جني أو إنسي.
وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: ? شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض ? [الأنعام: 112]، وشياطين الإنس أقوى على الإنسان وأشد عليه من شياطين الجن.
وتأويل ? الوسواس الخناس ? فهو: الشيطان الخانس، فهو يخنس عن أعين الناس فلا يرونه، ومعنى يخنس: فهو يغبى فلا يرى، فهو الشيطان - عليه لعنة الله - يوسوس بحضوره في الصدور من الذكر والخطرة، بالوسوسة والإغواء والفسق والردى، حتى يدخل بحب المعاصي في الصدور )، وقد تكون الوسوسة من الفريقين بالمشاهدة والمحاضرة، وقد تكون منهما الوسوسة بالذكر والخطرات الخاطرة، وأي ذلك كان في الصدور بخاطرة تخطر، أو حضور - فهي وسوسة، من شيطان أو إنسان، بما يجول منهما في الصدور والجنان.(2/356)
تفسير سورة الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألته عن قول الله سبحانه: ? قل أعوذ برب الفلق ? ؟
تأويل ? قل أعوذ برب الفلق ? أعوذ: هو أستجير، وتأويل الرب: فهو السيد المليك الكبير، وتأويل الفلق: فهو الفجر إذا انفلق، وكذلك يقول الناس: انفلق الفجر وبدا، إذا تبين وظهر وأضاء، وفي ذلك وبيانه أشعار كثيرة لا تحصى، لشعراء الجاهلية الأولى.
? من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد ? فأمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعيذ به من شر خلقه في النهار كله، وأن يستعيذ به من شر جميع خلقه في ليله، ولا يكون شر إلا في ليل أو نهار، وإلا بعد غسق أو انفجار.
والفلق: فأول الفجر وفلوقه، قال لبيد:
الفارج الهم مسودا عساكره كما يفرج جنح الظلمة الفلق
والغسق: فأول الليل. وغسوقه: ظلمته، كما قال ابن عباس: غسق الليل أول الليل وظهوره وظلمته، فقد أتى على ذلك كله استجارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستعاذته، وغسق الليل ووقوبه: فهو وجوبه.
وأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مع استعاذته به من شر الليل والنهار، أن يستعيذ به - لا شريك له - من شر السواحر والسحار، والسواحر: هن النفاثات في العقد ( وأمره أن يستعيذ به من شر الحاسد عند الحسد إذا حسد )، والنفث: فهو التفل على العقدة إذا عقدت، والعُقَدُ: فهي عٌقدٌ يعقدها السواحر في خيط أو سَير، وسواء كان العقد كبيرا أو غير كبير، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاستعاذة من شر الحاسد عند حسده، من مباينته بجسده.(2/357)
تأويل ? إذا ? - هاهنا - عند، وسواء قيل: عند، أو إذا، معنى هذا هو معناه، ( وشر الحاسد ما يكون من ضره ومكره وعداوته وكيده وغير ذلك )، وليعلم - إن شاء الله - من قرأ تفسير هذه السور الثلاث وما بعدها من التفسير، أن كل ما فسرنا من ذلك كله فقليل من كثير، وأن كل سبب من كلمات الله فيه فموصول بأسباب، عند من خصه الله بعلمها من أولي النهى والألباب، لا ينتهى فيه إلى استقصائه، ولا يوقف منه على إحصائه، كما قال سبحانه: ? قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ? [الكهف: 109]، فكلام الله جلَّ ثناؤه في الحكمة والتبيين والهدى، فما لا يدرك له أحد غير الله منتهى ولا مدى، وكلام غير الله في الحكمة وإن كثر وطال، وتكلم منه قائله بما شاء من الحكمة فأقصر أو أطال، فقد يدرك غيره من الخلق غايته ومنتهاه، وكل وجه من وجوه كلامه فلا يفتح وجها سواه ؛ لأن علمه ينفد، وكله فيحصى ويعد، وكلمات الله سبحانه كما قال لا تنفد بإحصاء، ولا يؤتى على ما فيها من خفايا العلم باستقصاء، وقليلُ علمها فكاف - بمنِّ الله - كثير، وكلها فضياء ونور وهدى وتبصير ( وبعد: فإنا بالله نستعين نعلم بأن غيرنا ممن لعله سيقرأ كتابنا هذا وتفسيرنا، أن لولا ما رأينا في الناس، من الغفلة والحيرة والالتباس، في معرفة ما جعل الله عز وجل لكتابه من سعة من المخارج، وأبان به وفيه من جوادّ المناهج، التي قرب لرحمته سبلها، وخص بعلم قصدها أهلها، لما تكلفنا إن شاء الله من ذلك ما تكلفنا، ولاعنينا فيه بوصف ما وصفنا، لما ينبغي أن يكون عليه اليوم مَن اهتدى، فوهبه الله عصمة ورشدا، من الشغل بخاصة نفسه، والوحشة من ثقته وأنسه، ولكنا أحببنا أن يعلم مَن جَهِلَ ما قلنا من سعة فنون الكتاب المكنون، لما جعل فيه من العلم لأولي الألباب، سيوقن أن للكتاب ظهورا وبطونا، وأن فيه بإذن الله لأولي الألباب علما مكنونا، لا يظفر أبدا به،(2/358)