[موعظة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله حمدا دائما مقيما، وصلى الله على محمد وأهله وسلم تسليما، نستهدي الله للهدى، ونعوذ به من الضلالة والردى، فكم من ضال مغتر ؟! ورَدٍ مدمر، قد غُر حياته بالأمل والمنى، وهو يرى في كل حين الموت والفناء، يتمنى من بقائه كثيرا، وقد رأى من أُخذ غريرا، مما لا يحصيه بعدٍّ، ولو جهد كل جهد، فكم رأى في غرته من مأخوذ! وميت بالعراء منبوذ!! يتخالس الطير لحمه تخالسا، وتتناهشه سباع الوحش تناهشا، وكم سمع به من ملقًى في بحر من البحور للموت ؟ يأكل لحمه من ملقى من البحر ما قاربه من حوت، وكم رأى في الثراء من ملحود ؟ متناثرة أوصاله وعظامه بالدود، وقد نسيه بعد الذكر أهلوه!! وقطعه بعد مودته مواصلوه، فأغفلوا ذكره فلا يذكرونه إلا قليلا، وكلهم فقد كان له أهلا وخليلا، فكأن لم يروه قط حيا في الأحياء معهم!! ولم ينالوا منه ومن كدِّه عليهم ما نفعهم!!
فيا ويل من سقط هذا عن ضمير قلبه! وأصر مقيما على الخطيئة بعد علمه به! كيف خسر دينه ودنياه ؟! وآثر ضلالته في الحياة على هداه ؟! فهلك هلاك الأبد وقد رأى في حياته منجاه، ودُل فيها على نجاته ورداه.
فنعوذ بالله لنا ولك من العماية عن الهدى، ونعتصم بالله لنا ولك من الهلكة والردى، فما يردى بعد هداية الله ويهلك بما حذَّره الله من المهالك، إلا كل شقي من الخلق هالك!! فنستجير بالله من الهلكة والشقاء، بعد منِّ الله علينا بالهداية والتقى!
فكم من مهدي لقصده ورشده ؟! قد ضل بعد هدايته عن قصده!
وكم من مستمع ومبصر لا يسمع ولا يرى ؟! كما قال الله تبارك وتعالى :? وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ? [الأعراف: 198]. وقال سبحانه :? صم بكم عمي فهم لا يرجعون ? [البقرة: 18].(2/349)
يا أُخيَّ فانظر فيما ذكرت واستمع، تسعد وتنجُ بإذن الله وتنتفع، ولا تك كالذين هلكوا وهم يرون، أولئك فهم المعترفون بالله المقرِّون، الذين رضوا من حياتهم، بالتمني في المعاد لنجاتهم، بما تمنوا غرورا مهلكا، فقالوا إذ اقترفوا كذبا وإفكا، وإن كانوا قد أقروا، لا كما فعل من نحن وأنت فيه من العذاب من كبائر العصيان، ثم ادَّعوا النجاة بعد الإقرار بالعذاب دعوى بغير ما حجة ولا برهان.
ولفي ذلك، وأولئك، وهم بنوا إسرآئيل عليه السلام، وذرية إبراهيم خليل الرحمن، ما يقول سبحانه :? ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون، ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون، فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت ? [آل عمران: 23 – 25]. وقال سبحانه: لهذه الأمة، فيما نزل من آياته المحكمة: ? ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوأ يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ? [النساء: 123]، فكفى يا أُخيَّ بما يسمع السامعون من هذا ومثله بيانا وتبصيرا! نفعنا الله ونفعك بتبصيره، وما منَّ به علينا وعليك من تذكيره.(2/350)
[رسالة إلى بعض بني عمه عن الدنيا والزهد فيها]
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم .
متَّعك الله من نعمه وحوطِها، ومنعك من مذموم الأمور ومسخوطها، بما أمتع به أهل رحمته ونعمته، ومنع به من المكاره أهل توفيقه وعصمته، ومَنَّ عليك من تقوى الله وإيثارها، ورفض الدنيا واحتقارها، بما منَّ به على من آثره، وأجلَّ أمره فوقَّره، فإن ما أمر الله به من رفض الدنيا واستقصارها، دليل ممن فعله على إيثار الآخرة وإكبارها، وإن رفض الدنيا والإعراض عنها، دليل ممن فعله على الإقبال على الآخرة والاستكثار منها.(2/351)
وكذلك التمسك ببعض الدنيا ومَقْتها، دليل ممن فعله على إكرام الآخرة ومحبتها، وعلى قدر يقين أولياء الله بما عظَّم من أمر الآخرة وأمورها، زهدوا في الدنيا فاستقلوا ـ جهدهم ـ من متاع غرورها، فتبلغوا إلى الله بالعلق، واكتفوا من نعيمها باللعق، إكبارا لما وجدوه فيها إجلالا لله من السخط، ولما عليه العباد فيها من الإعراض عن أمر الله والفرط، ولما رأوا الباطل يسمو علوًّا، وحق الله فيها معطلا مجفوا، صحبوا أيام حياتهم بالحُرق والزفرات، وهجروا ما أحل الله لهم فيها من الطيبات، وأعرضوا من الدنيا عما أعطاهم، ولم يعطه من أهل الدنيا بتحليله له سواهم، ولم يجعله حلالا فيها إلا لمن اهتدى إلى الله فيه هداهم، وأيقن فيها بالله يقينهم، ودانه في إيثار الحق دينهم، فحقيق بذلك منهم لسخطهم فيها على من أسخط ذا الجلال والإكرام، أَوَلا تعلم ـ أغناك الله ـ أن من أسخط لنفسه الآدميين لَيَشتغل عن كثير من المطعم والمشرب والكلام، لما هو فيه من الشغل بحُرَقه وأَسَفه وسَخَطه، حتى ربما ذهب سخطُ بعضهم في ذلك بعقله لفرطه، فكيف بمن سخط وغضب لرب الأرباب ومغاضِبِه ؟ أليس ذلك أولى بالقليل في تنعمه ومطاعمه ومشاربه ؟ بلى إنه لأولى بذلك، وأحق ممن كان كذلك، ولَذلك أزكى عند الله وأرضى، وأوجب في الفرض لو كان من الله فرضا، ولكنه سبحانه لرحمته بالمؤمنين وإحسانه إليهم، ورأفته بهم و تحننه عليهم، جعل ذلك لهم سبحانه تطوعا ونافلة، وفيما بينهم وبينه فضائل لهم كاملة، فقال جل ثناؤه :? يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين? [المائدة: 87]. وقال سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وآله :? قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة? [الأعراف: 32]. فجعلها لهم في الدنيا وأخلصها لهم في الآخرة، ولم يجعل معهم فيها حظا للكفرة ولا للفجرة .(2/352)
وقال سبحانه :?ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين?[المائدة: 93]. فلم يجعلها الله سبحانه إلا لمن اتقى، وحرَّمها على من فجر وتعدَّى، ولم يكن من أهل الإيمان بالله والهدى، فاستقل أولياء الله منها، وأعرضوا لسخطهم لله عنها، كما جاء في أثر عن عثمان بن مظعون، فيما كان حرَّم على نفسه من الأطعمة واللحوم، جعلنا الله وإياك من أوليائه، وأسعدنا وأسعدك بطاعته في يوم لقائه .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلنا وهو رب العرش الكريم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الأكرمين.(2/353)