فوا عجبا لمن كان بهذا موقنا!! بل لمن ظنه وإن لم يوقن به ظنا!! كيف لعب ولها ؟! وغفل فيها، ولقد اكتفى الله سبحانه – في ذلك لمن لم يوقن بنفسه، ولم يَدِن لله فيه بحقيقة دينه – بالظن، فقال سبحانه : ? ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين? [المطففين: 4 – 6]. اكتفاءً لهم بالظن لو ظنوا من حقائق اليقين، وتذكيرا فيه لهم بما يمكن كونه يوم الدين.
وفيما كان به المؤمنون في دنياهم يوقنون، من لقاء ربهم ويظنون، ما يقول سبحانه :? الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون? [البقرة: 46]. فذكر الله سبحانه ظنهم بلقائه، ومرجعهم إليه وإلى جزائه، فكان عملهم واجتهادهم في دينهم، على قدر حقيقة ظنونهم، فكيف يكون مثلهم ؟+ من يدعي يقينهم وفضلهم، وهو غافل لاعب، وقائل كاذب، يقول مالا يفعل، ويقر بما لا يعمل.
وفي مقت الله سبحانه، لمن آمن ففكر فذكر اللهُ إيمانَه، وعلمَه بالإيمان لله وبالله وإيقانَه، ما يقول تبارك وتعالى اسمه : ?يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون? [الصف: 2 - 3]. ويقول سبحانه لمن ادعا الصدق والوفاء، وإتيان ما يحب الله ويرضى :? وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون? [التوبة: 105].
يا أُخيَّ فلا تغفل عن الموت والبعث غفلة من يُرى من أشباه الحمير، فإن بغفلتهم عن الموت والبعث بَعُدوا كما رأيت من النجاة والفوز والحبور، فعموا عما كان ممكنا في حياتهم من الهدى والرشاد، وشقوا بعمايتهم في المرجع إلى الله والمعاد، فدام شقاؤهم وتبارهم، وأقام ندمهم وخسارهم، ثم بكوا فلم يُرحموا بالبكاء، ودعوا فلم يجابوا في الدعاء، ?فنادوا يا مالك ليقض علينا ربك ـ و ـ قال ـ مالك: إنكم ماكثون? [الزخرف: 77].(2/344)
وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: ? ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون? [السجدة: 12]. وعند تلك وفيها، وعند ما صاروا إليها، قالوا: ? ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون? [المؤمنون: 106 – 107]، فما كان جوابهم عند قولهم وطلبهم، وعندما أُحل من سخط الله المخلد بهم، إلا أن قال :? اخسئوا فيها ولا تكلمون? [المؤمنون: 108].
يا أُخيَّ فاسمع ما تسمع سماع متبع، ولا تسمعه سماع مستمع، فرب مستمع غير سميع، وسامع مطيع، كما قال الله سبحانه :? وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ـ تأويل ذلك: لم يطعيوا ولم يعوا ـ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون? [الأعراف: 198]. وتأويل ذلك: لا يبصرون من الهدى ما تبصرون. وفيمن سمع بالسمع، ولم يسمع ولم يطع، ما يقول الله تبارك وتعالى في التنزيل، للعصاة من بني إسرآئيل :? وأخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا? [البقرة: 93]. فنسأل الله أن يمن بالسماع النافع عليك وعلينا، فإنا من الصمم والحيرة والظلم في البحر الزاخر، واللج الغامر، فلا ينجو مِن غَمره إلا من نجاه الله، ولا يلجأ مِن غرقه إلا من أنجاه، والله المستعان، وعليه التكلان.
بسم الله الرحمن الرحيم(2/345)
وبعد: فاعلم يا أُخيَّ، أنا وإياك في بحر من بحور العمى عميق، لا يصل معه أحد إلى هدى إلا أن يرشده الله ويهديه إلى ملجأ وثيق، فِكَرُ أهله سقيمة مدخولة، وعبرُ مَن فيه فعظيمة مجهولة، لا يعتبر بها منهم معتبر، ولا يفكر فيها منهم مفكر، فقلوبُ من يسمعها منهم ويراها، مقفلة والله المستعان على هداها، فهدانا الله ياأُخيَّ وهداك، بما أرانا الله منها وأراك، ونفعنا ونفعك، بما أسمعنا وأسمعك، فكم رأينا وسمعنا من عبر لا نحصيها ولو جهدنا كل جهد، وفي الاعتبار بأقلها أهدى الهدى وأرشد الرشد، فمنهم ما نرى بالعيان، ونسمعه في كل حين بالآذان، من موت وفناء، يذهب دائبا بالأحياء، تراه عيانا كل عين، وتسمع به في كل حين، وكم رأينا عيانا من جار ومعارف، وقرين محآلٍّ مؤالف، قد دهاه من حمام الموت وفاته ما دهاه، واغتره ما كان فيه من حياة دنياه، ولحق بدار الموت والبلاء، وصار إلى محلة الموت والفناء، فمات بموته أمره وشأنه، ونسيه إذ مات أوداده وأخدانه، ولها عنه أهله، وهُجِر بعده محله، فلم ير منهم واقف عليه، ولم يلتفت منهم ملتفت إليه، وكم عاينت من أولئك؟! ورأيت من ذلك!!(2/346)
بل كيف رأيت يا أُخيَّ رحمك الله من مختطف، بسقم مُمِضّ أو موت متلفٍ، قُطِعَ به دون مناه وآماله، وما أنعم الله عليه مِن نَظِرَتِه وإمهاله، فتلهف على ما فاته من طاعة ربه حين لا ينفع التلهف، وتأسف عندما لا يغني عنه ولو كثر التأسف، على ما فرط فيها من إمكان نجاته، وما خسره من أيام حياته، فذهب بندمه وحسرته، وآل بهما إلى معاده وآخرته، فبقي في الحسرة مخلدا، وفي الندامة مقيما أبدا، وكان عند تلك وفيها ومعها من مقاله، نحو ما ذكر الله عند مجيء الساعة من مقال أمثاله، إذ يقول سبحانه :? حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا سآء ما يزرون، وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ولدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون? [الأنعام: 31 - 32]. وقال تعالى ذكره :? حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون? [المؤمنون: 99 – 105] . فأنكصُ النكوص عن الآيات، تركُ ما أمر الله به من الحسنات، وارتكاب ما نهى الله عنه من السيئات.
يا أُخيَّ فحتى متى وإلى متى؟! دوام الغفلة والحيرة والعمى! ألسنا بربنا مؤمنين ؟!وبيوم البعث موقنين ؟! فمالنا يا سبحان الله من أمر الله معرضين ؟! ولانتقام الله بالخلاف عليه في أمره متعرضين ؟ من بعد الإيمان واليقين، والعلم بشرائع الدين.(2/347)
فرحم الله من عباده عبدا، أيقن أن له إلى الله معادا، فجد وشمر في طلب نجاته، قبل نزول الموت ومفاجأته، فكم رأينا من مفاجأٍ مبغوت، بما لم يتوقعه من وفاة وموت، أُخذ في غمرته، وعلى حين غرته، فتبرأ منه قبيله وأحبآؤه، وأسلمه للموت أهله وأقرباؤه، فلم ينصره أهل ولا عشير، ولم يكن له منهم نصير، بكاه من بكاه منهم قليلا، ثم هجره وجفاه طويلا، فكأنَّ -لم يره قط - حيا، ولم يكن له في حياته صفيا!
فأَبصِر يا أُخيَّ وبادِر، واعتبِر بما ترى وحاذِر، فرب مبصر لا يبصر، ومعتبر بما ترى لا يعتبر، يسترّ بالأشجان والأحزانِ، ويغر بالرجاء والأماني، وهو دائب في قطع عمره وأجله، مغتر بمناه ورجاه وأمله، لا يتنفس نَفَسا، ولا يطرف طَرْفا، إلا قطع به من أجله ناحية وطرَفا، لا يُغفل عنه وإن غفل، ولا يُؤخر لما رجاء وأمَّل، قد جد به المسير، واختدعه الأمل والتسويف والتأخير، فأمله خدعة وغرور، وأجله متعة وبور.
يا أُخيَّ فالعجل العجل، فقد ترى المسير إلى الموت والترحل، لا يقلع راحله وسائره، ولا يريع على أوائله أواخره، يُلحق المتأخرَ بالسائر الأول، والمقيمَ من أهله بالظاعن الراحل، لا يُخلِّف من العباد جميعا متخلفا، بل يختطف نفوسهم خطفا، يأخذ الصغير أَخْذَه للكبير، ويلحق بعضهم بعضا في الموت والمصير. فنسأل الله أن يبارك لنا في حلوله وموافاته، وأن يجعلنا ممن أسعده في يوم مماته، ونستغفر الله خير الغافرين، ونضرع إليه في عصمتنا من هلكات الجائرين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.(2/348)