[مدارج الأولياء]
قلت: فإذا وجدت الإرادة أي شيء أفعل ؟
قال: ? قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو أنقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ? [المزمل: 2 – 4].
قلت: بأي شيء أفعل ذلك ؟
قال: بقلة الطعام، وقلة الكلام.
قلت: كيف أصبر على الحق ؟
قال: بذكر المقام.
قلت: وما المقام ؟
قال: مقامك بين يدي الله سبحانه يوم القيامة.
قلت: وكيف أصبر عن الكلام ؟
قال: أكثر ذكر الله حتى تجد حلاوته تلهيك عن كلام الفضول.
قلت: ومن يقدر على ذلك.
قال: الذي يريد أن يصل إلى ربه.
قلت: أو جد لي ما أَيسرُ علي من ذلك ؟
قال: عليك بكثرة الدعاء والتضرع، حتى تأتيك المعونة من الله سبحانه.
قلت: كيف يصل العبد إلى ربه ؟
قال: إذا صبر على ذكره، وأدمن على شكره، ( وصل إليه بقلبه.
قلت بأي شيء ) يصل إلى ربه ؟
قال: بالجهد الدائم، والدعاء والتضرع، ثم عرف وعلم وأيقن أنه لا يصل إلى ربه إلا به.
قلت: بأي شيء ينجو العبد من عذاب ربه ؟
قال: بترك الذنوب.
قلت: أرأيت العبد إذا وصل إلى ربه أيسكن عنه الخوف والوجل أم لا ؟
قال: لا.
قال: لم وهو على يقين من ذلك ؟
قال: نعم. من اليقين أن يكون خوفه ووجله.
قلت: أو يكون طالبا لرزقه.
قال: نعم يكون شديد الطلب لرزق الآخرة.
قلت: أعني رزق الدنيا.
قال: ? من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب ? [الشورى: 20].
قلت: كيف يكون واثقا برزقه موقنا ؟
قال: كما يكون موقنا بالموت واثقاً مصدقاً أنه لا بد أن ينزل به.
قلت: ما علامة المحب ؟
قال: يقرأُ القرآن ويكون قرة عينه ولا يشبع من قراءته.
قلت: كيف يخافه ويحبه من قلب واحد ؟
قال: لأنه محب لواحد، فالخوف منه في حبه له، والحب له في خوفه منه، مثل النار والنور، فالخوف نار، والحب نور، فلا يكون أبداً نور بلا نار.(2/334)


ألا ترى إذا علت النار بنور يقع عليه اسم النور، كالسراج في البيت، فيقال في البيت نور، ولا يقال فيه نار، فالنور نار السراج إذا غلب الخوف على العبد يقال له خائف، والمحبة معه، وإذا غلبت المحبة على العبد سمي محباً والخوف معه، فإذا كمل الخائف على ما وصفت لك غلب بنوره ناره، فوقدت منه المصابيح، فنور البيوتات كلها والظلمات كذلك، فكذلك المحب إذا كمل في الخوف كما وصفت لك ونجا من نجاسة نفسه فهو كالمصابيح، كلامه نور وصمته نور، وعمله نور ومدخله نور، فهو نور من رأسه إلى قدمه كالمصابيح، فكل تحركه ( أبدا نور، متصل بنور الملكوت الأعلى، قلبه مع الله بحلاوة حبه، وأحواله نور إلى الله في ذكره، فطوبى له وحسن مآب )، وطوبى لمن رزقه الله ذلك.
( قال الوافد: صف لي المتقلب في جوعه ؟ ).
قال: العالم: مثل المتقلب في جوعه كالمتشحط في دمه في سبيل الله، وثوابه الجنة.
قلت: ما علامة العارف ؟
قال: أن لا يفتر من ذكر ربه، ولا يستأنس بغيره.
قلت: ما أنفعُ الخوف لي ؟
قال: ما لم يجرِّيك على المعصية وأطال منك الحزن على ما فاتك، وألزمك التفكر فيما تصير إليه في الآخرة .
قلت: ما أنفعُ الصدق لي ؟
قال: أن تقر لله بعيوب نفسك، ومساوئ عملك، وتتقي الكذب في مواطن الصدق.
قلت: فما أنفعُ الإخلاص لي ؟
قال: ما نفى عنك الرياء والتزين في الجماعات.
قلت: فما أنفعُ الحياء لي ؟
قال: أن تستحيي من الله أن تسأله ما تحب وأنت تأتي ما يكره.
قلت: فما أنفعُ الأعمال لي ؟
قال: ما سلمت من آفاتها وكانت مقبولة.
قلت: فما أنفع العلم لي ؟
قال: ما نفى عنك الجهل، وازددت به ورعاً وكنت به عاملاً.
قلت: ما أنفعُ التواضع لي ؟
قال: ما نفى عنك الكبر، وأمات منك الطمع والغضب.
قلت: فأي الجهاد أفضل ؟
قال: جهاد النفس الأمارة بالسوء حتى تردها إلى قبول الحق.
قلت: فأي المعاصي أضر علي ؟
قال: عملك الطاعات بالجهل.
قلت: فهو أضر علي من أعمال المعاصي بالجهل ؟
قال: نعم.(2/335)


قلت: وكيف يكون ذلك ؟
قال: ألست تعلم أن أعمالك بالمعاصي لا ترجو بها من الله ثواباً، وتخاف عليها من الله عقاباً ؟
قلت: بلى.
( قال: أليس تعلم أن أعمالك بالجهل فاسدة، وأنت تلتمس بها من الله ثوابا، وقد استوجبت عليها من الله عقابا ؟
قلت: بلى ) .
قال: فكم بين ذنب تخاف فيه العقوبة ـ والخوف طاعة ـ وبين ذنب تأمن فيه العقوبة ـ والأمن معصية.
قلت: فما ترى في الإستئناس بالناس ؟
قال: إذا وجدت عاقلاً مؤمناً قد زهد في الدنيا ورفضها، فاستأنس به، واهرب من سائرهم كهربك من السباع.
قلت: فأي المواضع أخفى لشخصي ؟
قال: صومعتك وداخل بيتك، وكل موضع لا يلحقك فيه شهرة، ولا تحيط بك فيه فتنة.
قلت: دلني على عمل أسلم به من شر الخلق ويسلمون من شري ؟
قال: إذا لم يكن في قلبك غل لأحد، وأحببت لهم ما تحب لنفسك، وكرهت لهم ما تكره لها، سلموا شرك، ولحق بهم خيرك.
قلت: ما علامة مؤثر الدنيا على الآخرة ؟
قال: هو الذي لا يبالي ما ذهب من دينه إذا سلمت له دنياه.
قلت: ما علامة الكذب في العبد ؟
قال: كثرة كلامه فيما لا يعنيه.
قلت: فما علامة قلة الكذب.
قال: كراهته لكثرة الحديث.
قلت: أخبرني ما حياة العبد ؟
قال: الإيمان واليقين حياته، والخوف والتوكل نجاته، وإذا ثبت الإيمان في قلبه، فمنه يهيج ما سألت عنه من الصدق والخوف والتوكل وحسن الظن، وهي أعمال سرائر القلوب. فإذا صح ذلك في القلب ظهر على اللسان والجوارح، وبان منه الصلاح.
قلت: فما الذي ترجو به صلاح قلبي إذا أنا عملت به ؟
قال: التيقض وخوف انقطاع العمر، ومراقبة الموت، والتفكر فيما تصير إليه من بعد الموت، واحذروا الغفلة وطول الأمل، ونسيان المعاد.
قلت: ما علامة الإخلاص ؟
قال: الندم والإستقامة على طاعة الله.
قلت: فما علامة الورع ؟
قال: ترك الشهوات، ورفض الشبهات.
قلت: ما علامة أهل التقوى ؟
قال: ترك ما فيه بأس ظاهر أو باطن، وسوء الظن بنفسك أنه ليس مأخوذ غيرك.(2/336)


قلت: من أي شيء أكثر ذكره ؟
قال: قراءة القرآن، فهو حصن المؤمن وتِرسُه.
قلت: صف لي مخ الزهد ؟
قال: قطع الطمع عن القلب، وامتناع السؤال للخلق، وترك مخالطة أبناء الدنيا، والفرار منهم، وصدق الإرادة، وحسن النية، وصحة العزيمة.
قلت: متى أعلم أني مطيع لربي حق الطاعة ؟
قال: إذا لم يجدك حيث نهاك، ولم يفقدك حيث أمرك، أطاعك لما سألته، لأنه مطيع من أطاعه.
قلت: فما طاعته لي ؟
قال: يجيب دعوتك ولا يمل من برك.
قلت: كيف أجاهد نفسي ؟
قال: تجوعها عن طعام الدنيا وتقمعها بالصوم، وتلزمها قيام الليل، وتحرسها عن الرياء والعجب، وتستقل عملها بعد ذلك.
قلت: أي شيء أقرب إلى الله من أفعال القلوب ؟
قال: اليقين وبعده العلم، وبعده الشكر لله.
قلت: ما عمارة القلب ؟
قال: الخوف.
قلت: ما طهارته ؟
قال: الحزن.
قلت: ما حياته ؟
قال: الذكر والتفكر.
قلت: فما فساده ؟
قال: الغفلة وطلب الدنيا.
قلت: فما موته ؟
قال: حب الشهوات، وأكل الشبهات.
قلت: ما دوآءه ؟
قال: الجوع سراً عن الناس، وقراءة القرآن مع التفكر في الخلوة، والتضرع إلى الله في أوقات الغفلة، والرغبة في مجالس الذكر، والتجرد عن أشغال الدنيا، والحزن الدائم في القلب مع طول الصمت، وذكر الموت في كل ساعة، وكثرة ذكر الله، والتواضع لله، والنظر في الأموات والإعتبار بهم.
قلت: كيف تكون مراتب التوبة ؟
قال: رجل تاب من الذنوب ولزم الطاعات، ورجل تاب من الذنوب وترك الدنيا وأقبل على الآخرة، ورجل تاب من الذنوب واختار الله سبحانه على الدنيا والآخرة، وعلى جميع الخلق، فالأول تائب ورع، والثاني تائب زاهد، والثالث تائب صدِّيق عارف متقرب.
قلت: أخبرني عن شر الأشياء ؟
قال: الكفر بالله.
قلت: أله زوجة ؟
قال: نعم. البخل.
قلت: ما بعده أشر منه ؟
قال: النفاق.
قلت: أخبرني ما أفضل ما أعطي العبد ؟
قال: العقل.
قلت: فما أنفع العقل ؟(2/337)


قال: ما عرَّفك نعمة الله، وأعانك على شكرها، وقام بخلاف الهوى.
قلت: فما علامة العقل في العبد ؟
قال: أن يعرف الحق من الباطل، والضآر من النافع، والحسن من القبيح.
قلت: فما أنفع النعم معرفة بعد نعمة العقل ؟
قال: الإيمان بالله.
قلت: فما حقيقة ذلك ؟
قال: أداء ما افترض الله عليك. ثم سكت العالم بعد ذلك وافترقا رحمة الله عليهما.(2/338)

153 / 201
ع
En
A+
A-