[الحياة الطيبة]
قال الوافد: صف لي الحياة الطيبة ؟
قال العالم: اعلم أن الحياة الطيبة لا تدركها إلا بخمسة أشياء:
ـ أولها: العقل.
ـ ثم المعرفة.
ـ ثم اليقين.
ـ ثم العلم.
ـ ثم الغنى بما عند الله.
فهذه الحياة الطيبة. فإذا أردتها فعليك بهذه الخصال، فلك في ذلك كفاية. وإذا أردت أن تكون من أهل الصدق في الحياة الطيبة، فابدأ بنفي العادة الخبيثة، وألبس نفسك الصبر والخلق الحسن، ( وأزل عن قلبك الذكر الرديء، ولا تشغل قلبك بغير ذكر الله وطاعته، وأمت حرارة الشهوة من نفسك، وليكن الموت عندك أحب إليك من الحياة، فإن الصالحين من قبلك تعاهدوا قلوبهم بالحزن الطويل، والجهد الثقيل، يريدون بذلك رضى ربهم، والتقرب إليه، فإن أحببت أن تسلك طريقهم، وتقفو آثارهم، فحول ) نفسك عن الدنيا وزهرتها، وأدِّب نفسك بالجوع، وأذلها بالفقر، وأنَّبها بقرب الأجل، وأبصر بعينيك إلى عرصة القيامة، حتى كأنك تحاسب فيها، فحاسب نفسك قبل ورودك إليها، واقطع نيتك عن كل شغل يشغلك عن الله، وتأدب بآداب الصالحين من قبلك، رموا بقلوبهم نحو خالقهم ( وكلما تحولت قلوبهم إلى غيره، حملوا عليها بالزجر، ورجعوا إلى مقامهم، وقصدوا بأبدانهم نحو قلوبهم، جهدا منهم، وأيأسوا أنفسهم عن الدنيا وراحتها )، وعوَّدوا قلوبهم الجهد وكدُّوها في طاعة خالقهم، حتى عرف الله منهم الصدق فآتاهم الفرج واليسر من عنده، وصرف عنهم العادة الردية الخبيثة .(2/319)
( فإذا أردت أن تكون مثلهم فغمض عينيك عن الدنيا، وأختم أذنيك عن أقاويل أهلها، واصرف قلبك عن زهرات بهجتها )، فانقطع إلى ربك، وأعمر قلبك بذكره، واستعمل لسانك في شكره، واجعل قلبك مملوءاً من محبته، وتلذذ بطاعته، فإنه يغنيك عن الخلق، ويهون عليك الصعوبة، ويخفف عنك المؤنة، وتصير حراً عن عبودية الدنيا إذا أوصلت حبلك بحبل الله عز وجل، ( وتسلم من الأشغال، وتصبح منير القلب، كثير الذكر، لذيذ المناجاة، حريصا على الطاعات، قليل الزلل والخطأ، قليل الغفلة، حسن الفعال، صافي الذكر، قليل الكلام والفضول، واسع الصدر، خلوتك مع الله لا تزول، وأنسك بالله، لا تستوحش إن كنت في القفرة، ويكثر يقينك في قلبك، فبدنك مطيع، ولسانك ذاكر، وكلامك حق، وعملك زين، وسعيك مشكور، وكل شيء منك نور، وكل حركة وسكون منك محمود، قد أعد الله لك النعيم، في جنة النعيم.(2/320)
[المتقي العارف]
قال الوافد: صف لي المتقي العارف ؟
قال العالم: إن من صفات المتقي العارف، أن يكون غذاؤه ذكر الله، ورأس ماله اليقين بالله، ومطيته الهيبة من الله، ولباسه التقوى، وتحريكه التفويض لأمر الله، وعزمه التسليم إلى الله، وخوفه التعظيم لله، وهو محبوس في سجن الرهبة، مقيد بالحياء، متنعم بالمناجاة، قد أمرضه الشوق، وأشغفه الحب، فهو مستأنس بطبيبه، مُمَكَّن بحبيبه، وله ) ورع، لا يشوبه طمع، ويقين لا يشوبه طلب، وانتباه لا تشوبه غفلة، وذكر لا يشوبه نسيان، وعزم لا يشوبه تواني، وتعب لا يشوبه عجز، وعلم لا يشوبه جهل، ورجاءٌ لا يشوبه غِرَّة، ودعاء لا يشوبه فترة، وتفكر لا يشوبه تَوَهُّم، وتوحيد لا يشوبه تشبيه، وتصديق لا يشوبه تكذيب، وتعديل لا يشوبه تجوير. فهذه صفة المتقي العارف.
فعليك بهذه الطريقة فالزمها، وأقبل عليها بقولك وفعلك، ( وحركتك وسكونك، وبصرك وظاهرك وباطنك، ونظرك وتمييزك، فإن الخير والبركة بحذاريفها لمن سلك هذه الطريقة.
واعلم أنك إذا صدقَت عليها نيتك، وعلم الله منك المجهود في ذلك، نصرك عليها وظفَّرك بها)، فمن صبر على هذه الصفة أربعين يوماً لا يشوب عمله بالكدرة والتخاليط والآفات، اتقد في قلبه مصباح النور، وانفتح له عينا قلبه، فيبصر بهما إلى جميع الدنيا والآخرة، فيعرف ( عند ذلك مصائب الدنيا، ومصائب الآخرة، فيصبر على مصائب الدنيا، ويخاف من مصائب الآخرة، لأن مصائب الدنيا نِعمٌ، ومصائب الآخرة نِقمٌ، فإذا ميز بينهما واعتبر، أقبل على خيرهما عاقبة، وعمل لآخرته بطيبة من نفسه، وانتبه واطمأن، وعرف أن الآخرة خير من الدنيا، وتحصَّن بذكر الله في دنياه، وعمل لعقباه )، فطوبى له وحسن مآب.
قال الوافد: فما يجب عليه بعد ذلك ؟(2/321)
قال العالم: يجب عليه أن يدعو عباد الله إلى الله، ويعرِّفهم أنهم من ربهم، فيرغبهم ويردهم إلى مولاهم من بعد هربهم منه، ويحبب إليهم خالقهم، ويعلمهم شرائع دينه، ويعرفهم آلاء الله ومنَّه ونعمه، ويلقنهم الشكر، ويرغبهم بالذكر في طاعته، ويحذرهم معصيته، ويريهم تقصيرهم، ويخوفهم هجوم الموت عليهم، ويعلمهم التوبة، ويدلهم على الله، ويعلمهم التوحيد حتى يوحدوا الله ويصدقوه ويعدلوه، وينشر العلم فنشره غنيمة، وذلك فعل الأنبياء والصالحين، ولو سكت العالِم هلك العالم والمتعلم جميعاً.
ومثل العالِم والمتعلم مثل نور الشمس ونور العينين.
افهم لو أن رجلاً بصير العينين بقي في بيت مظلم قد سُدَّ عليه بابه، وهو لا يهتدي إلى شيء فيه مخرجه، أليس يكون متحيراً لا ينتفع ببصر عينيه ما دام البيت مظلماً، حتى إذا فُتح عليه الباب، وخرج ورأى ضوء الشمس، انتفع ببصر عينيه عند ضوء الشمس. كذلك المتعلم يكون في بيت الجهل موثقاً عليه بابه، لا يهتدي إلى الخروج حتى يفتح عليه العالم العارف، لأن المتعلم يستضيء بنور العالم، ويهتدي إلى منار طرقه، ويخرج من ظلمة الجهل إلى نور العلم، فعند ذلك يكون علمه خالصاً من الآفات، وإنما الجاهل مثل المكفوف البصر لا ينتفع أبداً بضوء النهار، والليل والنهار في الظلمة عليه سواء. كذلك الجاهل لا يعرف ما هو فيه من ظلمة الجهل وعمى القلب، فلا يميز بين الحق والباطل، والجهل دآء وشَين، لا يداويه غير العلم.
والعلم شفاء وزين، لا يدخل معه دآء ولا شين، وليس العلم علم اللسان، المعلق على ظاهر الإنسان، الخالي عن القلب، وإنما مثله كمثل شبكة الصياد التي ينثر عليها الحب للطير، وليس يريد بذلك منفعة الطير، ولكنه يريد أن يصطادها بذلك الحب المنثور على الشبكة.(2/322)
كذلك عالم السوء لا يريد بعلمه رضى الله، ولكن يريد رضى نفسه ومنفعتها، وقد جعل هذا علمه شبكة، ليصطاد حطام الدنيا، وإنما العلم المنجي علم القلوب المنيرة الصافية الخائفة القانعة باليسير، السليمة من الآفات والتخاليط، ( وليس العالم من قد أسكره حب الدنيا، وإنما العالم الذي يعمل للآخرة الباقية، فهو منتظر للنزول والإنتقال، مشغول يخاف أن يفاجئه الموت بحال من الأحوال، فقلبه محزون، وشره مأمون، يجول بقلبه في الجنة أحيانا، وفي النار أحيانا، يخاف أن يكون من أصحاب النار، ولا يكون من أصحاب الجنة، فليس له همة غير تفتيش الآفات، وكثرة الذكر في كل حركة وسكون )، وكثرة الذكر لله في الحركة والسكون.(2/323)