فاسمع يا بني لما ذكر الله في ذلك سبحانه عنهم، وعرَّف أولياءه في ذلك منهم، إذ يقول لا شريك له: ? والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ? [التوبة:71]. ويقول سبحانه: ? لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألآ إن حزب الله هم المفلحون ? [المجادلة:22]. ومحآدة الله تبارك وتعالى في حدوده، خلاف المخالفين فيما حدد من أمره وعهوده، فالله يقول سبحانه: ? لا تجد ? وهم يقولون: بلى هم كثير موجودون، والله يشهد سبحانه ومَنْ قَبِلَ وحيَه على خلاف ما عليه يشهدون . وما في كتاب الله من بيان خلافهم، وشهادته بغير أوصافهم، فكثير بمنِّ الله جمٌ، يخص من بيان الله فيه ويعم.(1/71)


[أئمة الجور من أسباب الضلال]
وليس لقلة ذلك ولا عسره، ولا لملتبسِ لبسٍ من أمره، ضل القوم عنه ولا تاهوا، ولكن لما سنَّ فيهم ملوك بني أمية وشبهوا، ولقهر بني أمية لهم وغلبة سلطانهم، قوي عليهم فيه سلطانُ شيطانهم، فأَلِفُوه حتى أَنسوا به لطول الصحبة، وعز فراقه في أنفسهم لما كان يكون في خلافه من الأنكال المعطبة، ولمَّا كان مَنْ جَهِلَه يومئذ لديهم منكلا محروما، عاد مجهوله يومئذ فيهم بعد جهله معلوما، ثُمَّ خلفت من بعدهم أخلاف السوّ، التي أتت عداوتها للاسلام من وراء عداوة كل عدو، فكانت أكلف بما سنَّ لها أسلافها كلفا، وأسرف في الاحتجاج للباطل سرفاً، فالله المستعان للمحقين عليهم وفيهم، وفيما خالفوهم فيه من حكم ربهم عليهم، فقد أصبحوا وأمسوا عن الحق بكما وصما وعميا، وصاروا هم وأئمتهم من بني أمية لأنفسهم في ذلك داء دويا، لا يقبل شفاء الأدوية، ولا يسوغ فيه ولا ينفع دواء الأشفية، كما لا يسوغ في البَكَم، ولا في العمى ولا في الصَّمَم، دواء ولا شفاء أبداً، إلا أن يكون الله بشفائه متوحدا، وكذلك داؤهم من الجهل والضلالة والكفر، فلن يشفى منهم إلا بإكراه من الله لهم على الايمان وجبر، وذلك فما لا يكون منه بعد أن أمرهم، ولأنه لو كان منه بجبر لكان الايمان لمن جبرهم، وإذًا كان له لا لهم، وكان فعلَه لا فعلَهم، لأنه منه لا منهم، فالاحسان فيه له دونهم.
فهذا يا بني فاعلمه من أمرهم، ومما هم فيه من جهلهم وكفرهم.(1/72)


[الجهل المركب]
واعلم يا بني أن جهل الناس بالله وبدينه، وما هم عليه من العمى عن الله وعن تبيينه، يُدْعيَانِ جهلا مضعفا، وعمى مُتَبِّرا متلفا، لا يرجى إلا بالله لأهلهما منهما سلامة، ولا يزدادان على صاحبهما طول الدهر إلا مداومة، وإنما قيل في الجهل إنه مُضعف، لأن صاحبه لا يعرف ولا يعرف أنه لا يعرف، فجهله هذا جهلان، وهلكته بجهله هلكتان، بل لو قيل إن جهله هذا جهل مضعف أضعاف ثلاثة متراكبة، لكانت مقالةُ من قال ذلك في جهله صادقة غيرمكذَّبة، لأنه جَهِلَ فكانت تلك منه جهلا، ثُمَّ جهل أنَّه جاهل فكانت تلك لجهله مثلا، ثُمَّ رأى أن جهليه جميعا علما، فكان ذلك منه جهلا ثالثا وظلما.(1/73)


وإنما قيل إن عماه عمىً متبِّر متلف، ليس له إلا بالله عنه زوال ولا تكَشُّف، لأن صاحبه لا يألم له ولا يجده، فهو يزيده دائبا ويمده، إذ لا يجد له في نفسه ألماً، ولا يَعُدُّ عماه فيه عمىً، فلذلك ما ازداد داؤه، وقلَّ من عماه شفاؤه، ولو وجده فلمسه، أو ألَمَّ بأَلمِهِ فحسه، لطلب له الشفاء، ولما كان متبّراً متلفا، ولو طلب - ويله - طب ما به من دائه، عند من جعل الله عنده طبَّه من أهل الحق وأوليائه، لوجد عندهم من ذلك شفاءً له شافيا، ونورا لما عدم من بصره كافيا، ولكنه أصر عن آيات الله مستكبرا، وَعَدَّ عماه عن الله وعن تبيينه بصرا، فكانت مقالته على الله كاذبة، ونفسه فيما بينه وبين الله للأثام كاسبة، كما قال الله العليم بإصرار المصرين، في أمثاله من الأثمة المستكبرين: ? ويل لكل أفاك أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه ثُمَّ يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم، وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين، من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب من رجز أليم، الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ? [الجاثية:7-13].(1/74)


فكذلك هو فكما قال وإلا فمن سخَّره، هل ادعا تسخير ذلك أحد قط أو ذَكَرَه ؟! لا ولو ادعاه مدعٍّ إذًا لكان كذبه مكشوفا، ولكان بكذبه في كل قرن خلا أو بقي من القرون موصوفا، وما ادعا ذلك فرعون في جهله وعتائه ولقد ادعا غيره في ملكه لنظرائه، وما ادعا لهم خلقا ولا صنعاً، ولو ادعاه لكان ذلك كذبا مستشنعاً، وإنما تأويل قول فرعون: ? أنا ربكم الأعلى ? [النازعات:29]، أنا سيدكم ومليككم لا ما قال موسى، ولم يرد أنا لكم رب خلاق، ولا أنا لكم إله رزاق، لأن كل رب في لسان العرب فسيدٌ ومليك، ولا سيما إذا كان وليس له عند نفسه فيما ملك شريك.(1/75)

15 / 201
ع
En
A+
A-