[المريد]
قال الوافد: كيف يكون المريد للعبادة ؟
قال: يكون قلبه يجول في الملكوت الأعلى، ثم يمنع نفسه من الرجوع إلى شر عادتها وشهوتها، فإن لم يكن كذلك فإنه مغرور فيما هو فيه، وغير مستحق لما يدعي، ومحال أن يطير الطائر في الهوى، وهو مربوط بحجر ثقيل، كذلك القلب محال أن يصعد في الملكوت الأعلى وهو مربوط بالآفات، محفوف بالرغبة في الدنيا، مشغول بالتزين والتنقل في الشهوات، والغفلة عن الطاعات، وقلة الخوف لما هو آت.(2/314)
[مقام الأولياء]
واعلم أن مقام أولياء الله، لا يقوم به إلا من عَمِل عَمَل الصالحين، وهو الإجتهاد في الطاعات، والإنتهاء عن الشبهات، وترك الشهوات، والتوكل والتفويض، والزهد والتسليم، والإعتبار والتفكر، والورع والذكر، والخوف والخلوة، والقرب والمعرفة، والحب والإخلاص واليقين، والصدق والخشية والرجاء، وجميع ذلك لا يكون إلا من القلب الطيب الصافي الرقيق، التارك لحطام الدنيا وعنائها، فإن الله يُقبل على عبده بالجود والعطاء، ما دام العبد مقبلاً على صفاء عمله، لا يولي إلى غيره.
فإذا خيَّلتْ لك نفسك أنك من الصالحين، فحقق ذلك بخمسة أشياء، واختبر بها نفسك، وهي:
ـ الأخذ والعطاء.
ـ والفقر والغناء.
ـ والعز والذل.
ـ والمدح والذم.
ـ والموت والحياة.
فإذا وجدت قلبك يميل إلى واحدة منهن دون الأخرى، فاعلم أن الذي أنت تزعم باطل، وهذا من تخيل النفس، وأنت مغتر فيما تدعي، لم تنل شيئاً مما ناله البررة الصادقون.
واعلم أن لكل شيء حقيقةً، ولكل صدق علامة، فحقيقة المعرفة معرفة النفس، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه، وحقيقة الصدق الإنقطاع إلى الله ورفض الدنيا، فمن عرف ربه عَبَدَه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، فمن عرف الله أحبه، ومن أحبه لم يعصه، وعمل بما يرضيه، وإن نعيم المحب العارف ساعةً واحدة أكبر وأجلى وأطيب وأعلا من نعيم أهل الدنيا بنعيمهم، من يوم خلقهم الله إلى أن يفنيهم، وإن الله رفيع الدرجات ذو العرش له الدنيا والآخرة، حبيبهم به يستأنسون، وعلى بساط قربه يتقلبون، وفي جزيل كرمه يتنعمون، وبذكره يتلذذون، وبالوصول إليه يفتخرون، قد وعدهم من جزيل عطائه، وسعة رحمته، ومكنون فضله، ما يعجز عنه الواصف، ورضي عنهم وأرضاهم، أولئك الذين لا يشقى جليسهم، ولا تُرد دعوتهم، يدورون مع الحق حيثما دار، والأرض بهم رحيمة، والجبار عنهم راضٍ، جعلهم الله بركة أرضه، ورحمة على عباده، فطوبى لهم وحسن مآب.(2/315)
[الصادق المجتهد]
قال الوافد: صف لي الصادق المجتهد ؟
قال العالم: هو الذي لا يعجز عن الإجتهاد فيما يقربه إلى الله، في تحريكه وسكونه، وكلامه وقعوده وقيامه، ثم يجعل اجتهاده من جميع جوارحه، ثم يجعل تحريك لسانه، وإستماع أذنه، وبطش يده، ومشي رجله، وأخذه وعطاه، ونومه ويقظته، وجميع ما يكون منه في ليله ونهاره، يصدق بعضه بعضاً، ( ثم يجعل طعامه وشرابه، ولباسه، وجوعه وعطشه، وقيامه وقعوده، وشبعه وريّه، يوافق بعضه بعضا )، ويجعل جميع ذلك صدقاً منه، وقصداً إلى ما يوافق إرادته، وليكن ذلك من خالص قلبه، فإن فعل ذلك كان صادقاً في إرادته وعبادته، فإن الصادق المحب المستمر في الطاعات، ينبذ الدنيا وراء ظهره، فيظمأ نهاره، ويسهر ليله، ويترك شهوته، ويخالف هواه، ويقصر أمله، ويقرب أجله، ويخلص عمله من الآفات والتخاليط، ويرتعد بدنه من خوف الله، وقد ترك الدنيا عنه، لما عرف مكرها وخاف مضرتها، لم ينظر إليها بقلبه، ولم يمش إليها بقدمه، ولم يبطش فيها بيده، حذراً من شرها وفتنتها، فهو هارب بنفسه حذراً من أهلها، فقلبه غير غافل عن الله، ومداوم على ذكره، وقد عزل عن نفسه كل شغل يشغله عن الله، وأقبل على قلبه، فعمره بذكر ربه، وجعل ذلك صافياً خالصاً لله، فهو خائف وَجِل مرعوب من عذابه، هارب من الدنيا وأهلها، محافظ على عمله، قائم على نيته، فبذلك يهتدي الضآل، ويسلك الطريق، ويستجيب الله دعاءه، ويملكه الله من قصور الجنة، ويزوجه من حور العين، ويخدمه الولدان، فطوبى له وحسن مآب.(2/316)
[الاخلاص]
قال الوافد: صف لي الإخلاص ؟
قال العالم: إن مثل نور الإخلاص مثل نور الشمس، لو غطى نور الشمس أدنى الغيم والغبار، تكدر من ضوئها على مقدار ذلك الغبار، وإن كانت عين الشمس في ذاتها صحيحة، ذلك مثل الصفا والإخلاص. وكذلك كل عمل يكون أصله لله خآصة فهو له خالص، ثم ربما شَابَهُ شيء من الدنس والكدر، فأحبط عليه عمله.
فالآفات التي تحبط العمل سبع:
أولهن: الكبر.
والثاني: الحسد.
والثالث: الحرص.
والرابع: الرياء.
والخامس: العجب.
والسادس: الشهوة.
والسابع: البخل.
فما دخل على المؤمن من هؤلاء فقد نقص عمله وإيمانه. ومثل ذلك مثل الثوب الجديد الأبيض، يصيبه شيء من الدنس والغبار، فيذهب من نوره وصفآئه وبهآئه بقدر ذلك الغبار والدنس، وإن كان الثوب في الأصل جديداً لا عيب فيه. كذلك مثل الإنسان في صلاته يكون في طهارته محكماً، ( وفي ركوعه وسجوده محكماً، فظاهره طاهر، وباطنه محشو من الآفات والتخاليط، فمن خلط فقد اغتر واستعبده الهوى، وزين له شيطانه، وخيلت إليه نفسه الكذب صدقا، والباطل حقا )، ولم يستحق اسم الإخلاص، ولو أن مؤمنا بلغ من كرامته عند الله أن يطير في الهوى، لم يزده ذلك إلا شدة وخوفاً واجتهاداً، وما ازداد إلا خشية، ولا ازداد إلا عبادة وهيبة، وما جعل الله للخالص إلى الرخصة سبيلا، فمن كان لله أعرف، فهو له أخوف، فينبغي لمن أراد الإخلاص في عمله، ألا تسكن روعته، ويكون خائفاً وجلاً حزيناً، وهذا إذا كان الخوف والحزن وافقهما القبول من الله عز وجل. لأن الخوف والحزن ينوران الإخلاص ويزينانه، وكل عمل لم يكن يوجل عليه القلب فقد حفت به الآفات من حيث لا يشعر، لأن لأعمال الطاعات، آفات مختلفات، ليس يعرفها كل مطيع، وذلك أن المطيع ربما هاج منه العجب والرياء والفخر والأمان، من غير أن يعلم بها، فلا يغفل المخلص عن ذلك، في ليله ونهاره، وحركته وسكونه، وذلك مما يدخل عليه من تمويه النفس وتلبيس الهوى.(2/317)
قال الوافد: صف لي صحيح الإرادة ؟
قال العالم: إذا علم الله من قلبك صحة الإرادة، وإخلاص العمل، أوصلك إلى الخير، وهدى قلبك، ويسر أمرك، وجمع شملك، وهوَّن عليك الصعوبة، وقمع عنك الشهوات، وبغَّض إليك الدنيا، وبصَّرك عيوبها وأدواءها حتى تعافها، وإذا عرف الله منك الصدق والإجتهاد، وعلم أنك لا تختار عليه غيره، قبل الله سعيك، وشكر عملك، وصار اجتهادك تلذذا وحلاوة، فإذا رآك الله تعمل على الحلاوة ولا تتوانى، ولا تختار عليه الدنيا، ولا تتبع هواك، ولا تطلب شهوتك، قبل الله منك عملك، ونثر عليك من صفاء بره، ونشر عليك من محزون رحمته، وكثَّر عليك من عطائه، ومنحك من خزائن جوده، وجزيل مواهبه ومعونته، ماتقر به عينك، وما إذا رأيته زادك اجتهاداً وخوفا وعزما، ونضَّر أثر ذلك عليك، وأورث قلبك النور والتقى والهدى، والشبع من الدنيا، وأغناك عمن دونه، وأعطاك من عطائه، مالم يحسن أن تتمنى قبل ذلك، والله كريم يقبل اليسير، ويعطي عليه الثواب الكثير.
قال الوافد: كيف أخلص العمل ؟
قال العالم: إنك لا تدرك إخلاص العلم إلا بالعزم، ومن كمال العزم قلة التسويف، ولزوم الصدق، وتمام النية، ومن تمام النية إخلاص العمل، ومن إخلاص العمل الصدق، ومن الصدق نقاوة القلب، ومن تمام نقاوة القلب ستة عشر خصلة بعضها على أثر بعض، وهي درجات الصالحين:
- أولها: الإنابة إلى الله سبحانه.
- وترك التزين من نفسك، وترك التصنع للناس، وترك الحسد.
- ورفض الشهوات.
- والزهد في الحطام.
- والتجافي عن دار الغرور.
- والإستعداد للموت.
- والإنقطاع عن الناس.
- والإقبال إلى الله تعالى.
- والإتصال بالذكر.
- وحسن الخلق.
- والرأفة بالمسلمين.
- والإنس بالله في الخلوات.
- والتشوق إلى الله.
- والمحبة لأولياء الله والمحبة له.
- والرضاء بالمقادير التي من عند الله.
- ثم اليقين فإن الله يعطي العبد على قدر يقينه.(2/318)