[فضل الصيام]
قال الوافد: صف لي فضل الصيام، والإقلال من الطعام ؟!
قال العالم: أكثر الصيام، تسلم من الآثام، أقل من الطعام تسبق إلى القيام، من شبع من الطعام، غلبه المنام، ومن غلبه المنام، قعد عن القيام، الشبعُ يظلم الروح، ويترك القلب مقروح، الجائع عفيف خفيف، والشابع عاكف على الكنيف، من كان شابعا، كان للشيطان متابعا، الشبع يكسب الوجع، ويذهب الورع، ويكثر الطمع.
ألا إن الصوم جُنَّة من النار، ورضى للجبار، من أطاع ضرسه، أضاع نفسه، التَّجوُّع في الفؤاد نور، وفي المعاد سرور، من استعمل القصد، استغنى عن الفصد، من قنع شبع، ومن شبع طمع، من أشفق على نفسه، لم يتبع شهوة ضرسه، من أطاع أسنانه، هدم أركانه، كم من طاعة، نبعت من مجاعة، وكم من قناعة، أتت بخير بضاعة، لا مجاعة مع القناعة.(2/309)
[مراقبة الله]
قال الوافد: صف لي المراقبة ؟
قال العالم: من راقب الله في الخلوات، أجاب له الدعوات، المراقبة، تورث المحاسبة، راقِب مولاك في الليل إذا دجاك، وفي النهار إذا أضاك، يعصمك من هواك، اذكر نظر الله إليك، ولا تنس اطلاعه عليك، أما تعلم أن الرب إليك ناظر ؟! وعليك في كل الأحوال قادر ؟! أما تعلم أن مولاك يراك ؟! ويسمع سرك ونجواك ؟ ويعلم منقلبك ومثواك ؟ أرخيت عليك الأستار، وأخفيت ذنوبك عن الجار، وبارزت الجبار بالمعاصي الكبار، وجمعت الذنوب والأوزار، وشهد عليك الليل والنهار، والملائكة الحضُّار.
أما تخاف عقوبة الجبار ؟! والخلود في النار ؟ إلى كم تستتر عن أعين الناظرين ؟ وقد شاهدك أقدر القادرين ؟ كم تخاف من المخلوق وتستخفي ؟ ولا تخاف الخالق ولا تستحيي، كم تنقض العهود ؟ وتستخف بالشهود، كم تجتريء على المعبود ؟ ويعود عليك ولا تعود ؟ كم رآك على المعاصي وستر، واطلع منك على القبائح وما نشر، وغطى عليك وما شهر، أما تذكر قبائح أمرك ؟ أنسيت فضائح سرك ؟ أما تخاف من ذنوبك ؟ أما تزدجر عن عيوبك ؟ أغفلت عن الداهية ؟ ولم تخف الهاوية. أأمنت من لا تخفى عليه خافية ؟! وقد اطلع عليك مراراً، وأسبل عليك أستاراً، ( وبارزته غير مرة فستر وعفى، ونقضت ما عاهدته عليه ووفى ).
ولو شاء لأمطر عليك الحجارة من الهواء، وسلب منك العطاء، وكشف عنك الغطاء وشهرك لعباده، وضيق عليك بلاده، وبدل اسمك، وغير جسمك، هب أنه ستر عليك في الدنيا، ماذا تعتذر إليه في العقبى ؟ هب أنه تجاوز وعفا، وقد نقضت ما عاهدك عليه ووفى، ألم تستح من خالق الأرض والسماء ؟ ألم تستح من الحفظة الكرام ؟! ألم تخف من لا ينام ولا يضام ؟! يا حياه من قلة الحياء!!
وقال في ذلك :
يا من شكى حافظاه خلوته .... حين خلا والعباد ما فطنوا
لم يهتك الستر إذ خلوت به .... بر لطيف كفاله المنن(2/310)
[الانفاق والبخل]
قال الوافد: صف لي فضل الإنفاق وقبح البخل ؟
قال العالم: ما لَك من مالِك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأبقيت، وسوى ذلك وبالٌ عليك، من صان فلسه، أهان نفسه، من حبس درهمه، جمع في القلب همه، البخل أدوأ الداء، والكرم أنفع الدواء، ما ثقل في الميزان، مثل الإحسان إلى الإخوان، والنجاة في قراءة القرآن، ما أحبط العمل، بمثل التغافل والنسيان والكسل، من لزم السماحة، لم يعدم الراحة، البخيل في الدنيا مذموم، وفي الآخرة من الخير محروم، تُملك البلاد بالفرسان، وقلوب العباد بالإحسان، مَن بذل ماله، نال آماله، من جاد بكسرته، فقد بالغ في مروءته، من أخرج فضل الأموال، نجا في الآخرة من الأهوال.(2/311)
[جهاد النفس]
قال الوافد: كيف أصنع بالنفس حتى ترجع عن شر عادتها ؟
قال العالم: لا ترجع النفس عن عادتها أبداً، وليس منها إقلاع ولا رجوع، إلا بالقهر والغلبة والجهد والخوف، وبالعلم والمعرفة والزهد تحبس النفس عن شر عادتها، ولا يُدرك ذلك منها إلا بصدق الإرادة، والصبر والمعالجة، وكثرة الخوف والعمل بالصواب، فإذا ظفرت بها حتى تردها إلى طاعة الله ورضاه، ووُفِّقت لذلك فاشكر الله، واعترف له بالطاعة إذ جعل ذلك بتوفيقه لك.
فينبغي لك من بعد ذلك أن تقلع عن الهوى، وتصم أذنه، وتخرج التخاليط والآفات من أماكن مزرعها، وتغلب هواك وتحذر النسيان والغفلة، ووسوسة الشيطان، وسرعة العجلة وتأخير الخير، وتحذر التواني والعجز.
واعلم يقيناً أنك لا تظفر بذلك من نفسك إلا بالقهر، وتمنعها من الرغبة والحرص والكبر، والرياء والحسد، والرياسة والبخل، وطول الأمل، والتقلب في طلب الشهوات، ومحبة الدنيا، والتصنع للناس والمحمدة منهم، وترك الغش والخيانة، وخوف الفقر، والطلب لما في أيدي الناس، ولا تنس الموت، واترك الغفلة والشح والسفالة والسفاهة.
فإذا نصرت على ذلك وأنفيته عن نفسك، فاشكر الله كثيراً فقد شكر سعيك، فعند ذلك تصح أعمالك، غير أن النفس لا تصلح حتى تكدها، وتقهرها وتجهدها، لأنها أمَّارة بالسوء والفحشاء، وبالشر والفتنة والآفات مولعة، وهي خزانة إبليس، منها خرج وإليها يعود، وهي تزين لصاحبها تسعة وتسعين باباً من أبواب الطاعات والخير، لتظفر به في كمال المائة، فكيف يسد السبيل العريض من لا يعرف مجراه ؟! وكيف يعرف ذلك من لا يعرف عدوه ودنياه ؟ وكيف يعرف عدوه ودنياه من لا يختلف إلى العلماء ؟ ولا يخالط الحكماء، ولا يجالس الصالحين.(2/312)
فإذا أردت النجاة فتعلم العلم من العلماء، وخذ الحكمة من الحكماء، ولا تشد على نفسك مرة وترخي أخرى، ولكن أقبل إليها بعزم صحيح، وورع شحيح، وصبر ثخين، وأمر متين، حتى تمنعها عن شهواتها، وترجعها عن شر عاداتها.
ثم اجمع أطرافك إلى وسطك ـ أعني إلى قلبك ـ وهو أن تحكم القلب على الجوارح، ولا تُحكِّم الجوارح على القلب، ولا يتم لك عمل ولا يخلص لك إلا بهذه الصفة.
فالعين تغمضها عن الحرام، فإنها جاسوس القلب، ثم الأذنان تمنعهما أن يوعيا الشر والخنا والنمائم والكذب، ثم اللسان خاصة، نزهه عن الكذب والغيبة والمجادلة والفضول والمقاولة والشبهات، فإنه معدن قرارة النفس، وهو ترجمان القلب. ثم البطن فاحفظه لا يدخله الحرام والسحت والشبهة والشهوات، فإن نور القلب وصفاه من طيب طعمة البدن وخبثها. وأما الفرج فما دمت حابساً لبطنك من الإمتلاء والشبع، فأنت قادر على حفظه.(2/313)