[الرحمة]
قال الوافد: قد وعدنا الله بالرحمة في كتابه ؟
قال العالم: ? إن رحمة الله قريب من المحسنين ? [الأعراف: 56]. إذا عملت بالرضى، عفى عنك ما مضى، وحرم لحمك على لظى، ( وإن لم تعمل بالرضى، أخذك بما بقي وما مضى، وأحرقك بنار لظى )، إذا نظر ستر، وإذا رحم غفر، عظيمٌ فضله، صادقٌ قوله، عليم، رحيم، بالكرم موصوف، وبالرحمة معروف، العبد ينشره، والرب يستره، يكافئ، ويعافي، ويشفي عبده، ويوفي وعده، كم قبيحٍ فعلناه ستره، وكم رزق لنا يسَّره، اقرع بابه، تجد جوابه، اقرأ كتابه، يبن لك عتابه، ارجع إليه يمنُ بالقبول، واقرب إليه يُحسن بالوصول، ما ضاع مَن قصده، وما جاع مَن عبده، ولا خاب مَن أمَّله، ولا خسر مَن عمل له، بابه لا يُغلق، وحكمه لا يُسبق، وجاره لا يَفرق، القلوب من خوفه تفرق، والصدور من هيبته تفلق، والرجاء بعفوه يعلق.
من ناجاه أنجاه، ومن اتقاه وقاه، ( ومن أوفاه وفَّاه، ومن أطاعه أعطاه )، مَن التجأ إليه نصره، ومَن استغنى به ستره، ومَن قصده قَبِلَه، ومَن وَحَّده أجلَّه، وَمن عبده فضَّله، من تاجره أربحه، ومَن أمَّله فرَّحه، من سأله منحه، ومن شكره [شكره، ومن ذكره]ذكره، مَن استهداه وفَّقه، ومَن توكل عليه رزقه، ومَن أمَّله صدقه، ومن تعزز به أعزه، من استغنى به أغناه، ومن سأله أعطاه، ومن تولاه والاه، ومن استأنس بذكره لم يخب، ومن تخلا لطاعته نال ما يحب، إليه المفر، وعنده المستقر، مَن للفقير إلا الغني، مَن للضعيف إلا القوي، مَن للذليل إلا العزيز العلي، مَن للعبد إلا سيده، وأين يوجد إلا عنده.
قال الوافد: كأني بالقيامة وقد قامت!(2/299)
قال العالم: كأني بالشاب المليح، وهو في النار طريح، ثاوي يصيح، بمقامعها جريح، ( يطلب الراحة لا يستريح، بين أطباق العذاب يصيح )، كم من شيخ كبير، في العذاب المستطير، لم تُرحم شيبته، ولم تُكشف كربته، ولم تقبل معذرته، قد أُطعم الضريع، وسُقي الحميم، وعُرِّي وجُرِّد، وقرِّب للعذاب ومُدِّد، وضرب بالمقامع وتُهُدِّد، وغُلِّل بالسلاسل وقُيِّد، ونزل في أدراك النار وأفرد، وطُرد من الرحمة وأبعد، وبُسط له في النار ومُهِّد، وغُلظ عليه العذاب وجُدد، ( ومُزق جلده بالسياط وبُدد، وصُب عليه العذاب وخُدد ).
فالويل له من توابيت النيران، وغضبِ مالك الغضبان، يقول له: هذا جزاء ما أذنبت وعصيت، وأخطأت وتعديت، وسوفت وتوانيت، لم تنته من العيب، ولم تتعظ بالشيب، ( بالمعاصي جاهرت، وبنفسك خاطرت، والصلاح أظهرت، والفساد والنفاق أسررت )، هذا جزاء من أظهر الصلاح وأضمر الفساد، هذا ( جزاء من أساء وظلم العباد )، هذا جزاء من ترك صلاته وأطال الرقاد، هذا جزاء من كان للمسلمين كثير العناد، ( هذا جزاء من نافق وقسي منه الفؤاد )، هذا جزاء من أضاع الصلاة ولم يهتم بها في الأوقات، هذا جزاء من تركها واتبع الشهوات، هذا جزاء من عصى الله في الخلوات.
قال الوافد: كيف يستريح في الدنيا من وعد بهذه المصائب ؟
قال العالم: من ارتكب المحارم، واكتسب المآثم، دخل هذه الدار، وخُلد في عذاب النار.(2/300)
يا من عصى الملك العلام، وخلا بالمعاصي في الظلام، يا من ذنوبه لا تحصى، وعيوبه لا تنسى، وذنبه لا يعفى، وقد برح الخفاء وكثر الجفاء، إخسأ فيها يا مطلوب يا مكروب، يا كثير الذنوب، أفسدت في الدنيا دينك، وضيعت فيها حظك، يا كثير القبائح، يا عظيم الفضائح، يا كثير الرياء، يا قليل الحياء، ( يا مغرور، يا من عطل الأيام والشهور، يا من ركب الشرور، يا من جعل ليله لكسب الذنوب والأوزار، يا من عصى الملك الجبار، يا من بارز الخالق في وقت الأسحار، يا من يصبح عاصيا، ويمسي ناسيا، ويصلي لاهيا، أصبحت من رحمة الله قاصيا )، يا مغبون يا مثبور، يا من اطمأن بدار الغرور، يا من قَدِم غير معذور، ما حجتك في يوم النشور ؟ ما أتركك لصلاحك! ما أغفلك عن أخذ زادك! مهلا عن التفريط، مهلا عن التخليط، مهلا قبل البين والفراق، يوم تلتف الساق بالساق، قبل مجيء ما لا يطاق.
قال الوافد: يا عجبا من هذه الدنيا ما أمكرها! ما أخدعها، ما أخورها، ما أدبرها! ما أقل نفعها! ما أكثر ضرها! ( تحلو وتُمِر، ما للدنيا بقاء، ما للدنيا وفاء، الدنيا بلاء، لا يجمعها ذوتقى، ما أكثر تخليطي، ما أكثر تفريطي )، ما أغفلني عن أعمالي، ما أقبح أفعالي، إلى كم أغتر بآمالي، كم أُخوَّف ولا أخاف، كم أُعرَّف ولا أعرف، كم أصر على الذنوب ولا أنصرف ؟! كم يمهلني ربي ولا أعترف ؟! إلى متى أقول: عسى وسوف ؟! وأدخل الحرام الجوف، أدخلت في قلبي الظلمة، غفلت عن الطاعة، وكفرت بالنعمة، نسيت الجريمة، واستعملت النميمة.(2/301)
قال العالم: اعترف بذنبك، وارجع إلى ربك، واندم على فعلك، ولا تستقل القليل، ولا تنم الليل الطويل، فإن أظلم الناس من ظلم نفسه، وأضيع الناس من ضيع يومه وأمسه، وأسرق الناس من سرق من صلاته، وأبخل الناس من امتن بزكاته، أذل الناس من أساء عمله في خلواته، أجلد الناس من غلب شهواته، أغفل الناس من ضيع حياته، أندم الناس مَن عطَّل ساعاته، أقوى الناس من مات على التوبة، رأس مالك في الدنيا الطاعة، التقى أفضل بضاعة، من أمَّل الله أعطاه، من سأل الله بلَّغه سُؤله ومناه، أسلمُ الناس مَن خملَ ذكرُه، وكثر شكره، من رضي بالقضاء، سلا عما مضى، كيف لا يهتم ولا يغتم ؟! من لا يدري العمل بما يختم، كيف يهناه رقاده ؟! كيف يتوسد وساده ؟! كيف يُسكن نفسه وفؤاده ؟! وهو لا يدري أَمِن أهل الشقاوة أم من أهل السعادة ؟! ( كيف يسكن إلى الدار والجار ؟! ويقر به القرار ؟! ويأكل في الليل والنهار ؟ من هو موعود بعذاب النار، وغضب الجبار ).
[قال الوافد: ما أعمل كي أنجو من النار] ؟
قال العالم: لا تقصر في عمل الأخيار، ولا تسلك سبيل الفجار، ولا تكسب الأوزار، وأطع ربك في الليل والنهار، ( ولاتأمن فتغتبن، ولا تجمع فتفتتن )، تجوَّع ولا تشبع، وتورَّع ولا تطمع، وخف واحزن، فمنزلك القبر وثوبك الكفن، كيف يلهو بالملاهي ؟! مَن بين يديه الدواهي، كيف يكتسب الآثام ؟! من وُكِّل به الملائكة الكرام، وكيف يضحك ويفرح ؟! من عليه غداً يُصرخ ؟! وللدود والهوآم يطرح، كيف يفرح ويسترّ ؟! من يموت ويقبر.(2/302)
[محاسبة النفس]
قال الوافد: مالي لا أخفف حملي ؟! مالي لا أخفف شغلي ؟! مالي لا أترك جهلي ؟ مالي لا أتبع عقلي ؟! مالي لا أجتهد ؟! مالي لا أجد ؟! مالي لا أخدم ؟! مالي لا أحزم ؟! إلى متى الرقاد ؟! إلى متى السهاد ؟! ( إلى متى أخالف ما أعلم ؟ أما أعلم أني إلى الله أقدم ؟! أين الحزم، أين العزم ؟ أين الجهد ؟ أين القصد ؟ ما هكذا يكون العبد )، إلى متى أنقض العهد ؟! ( إلى متى أخلف الوعد ) ؟! إلى متى أقول غداً أو بعد غد ؟! أما أعلم أن مسكني اللحد ؟! ما أقسى فؤادي! أنسيتُ معادي ؟! ما أقل زادي! قرب سفري! ركبت خطري.
الآن تَخلِق الجِدَّة، الآن تنتهي المدة، الآن ينزل الموت، الآن يقع الفوت، الآن يُسمَع الصوت، الآن يُغلق الباب، الآن أفارق الأحباب، الآن أنقل إلى التراب، الآن أحضر إلى الحساب، الآن أعاين البلاء، مالي لا أنتهي عن الهوى ؟! مالي لا أتبع الهدى ؟! لا بد من سفر، لا بد من خطر، لا بد من موت، لا بد من فوت، لا بد من العرض على الملك الفرد، لا بد من القبر، لا بد من الحشر، لا بد من النشر، لا بد من حسرة، لا بد من عبرة، لا بد من زوال، لا بد من ارتحال، لا بد من الجزاء على الأفعال.
خنت بالعينين، أصغيت بالأذنين، أخذت الحرام باليدين، مشيت إلى المعاصي بالرجلين، حركت بالكذب الشفتين، قطعت الرحم وعققت الوالدين، أعرضتُ عن مولاي وتبعت هواي، نسيت ما بين يدي، غفلت عما أساق إليه، لم أذكر مَن أُعرض عليه، ( كأني وقد عدمت نظر العينين، وسمع الأذنين، وبطش اليدين، ومشي الرجلين )، كأني وقد مُنعت الخطاب بلساني، وسُلبت القوى من أركاني، ونُزع روحي وأُدرجت في أكفاني، فويلي من ملائكة يشهدون عليّ بما صنعت، ويحفظون ما ضيعت، فيا كربتاه، واغُمتاه، ويا حُزناه، ويا غُصتاه، ويا شَجناه، ويا غُبناه، ويا سوء حالتاه.
وأنشد يقول:(2/303)