[المكين]
قال الوافد: أخبرني مَن المكين في ذلك اليوم ؟
قال العالم: المكين في ذلك اليوم، مَن أخذ من هذا اليوم لذلك اليوم العظيم، المكين من أتى الله بقلب سليم، المكين، من عرف الحق المبين، القوي الشجاع، من عرف الملك المطاع.(2/294)
[الحقير]
قال الوافد: فمن الحقير في ذلك اليوم ؟
قال العالم: الحقير من هو من رحمة الله فقير، الحقير من هو للذنوب أسير، الخاسر البائس، من هو من رحمة الله آيس، السقيم، من هو في النار مقيم، الحزين، من كان له في النار من الشياطين قرين، الهالك، من يُسَلَّم إلى مالك.
يا صاحب الحسن والجمال، والفخر والأموال، عند انقطاع الآجال، يبطل الحسن والجمال والأموال.
يا كثير الإشتغال، كأني بك يقلبك الغسال، كم ذا العجز والإذلال ؟! كيف تطيق السلاسل والأغلال ؟! ما أسوأ حالك! إذا لم تقدم مالك! لا تفقر نفسك وتغني عيالك.
يا ذا الأموال الكثيرة، غداً نفسك إليها فقيرة، يا ذا العز والمملكة، كيف بك في دار الهكلة ؟! يا ذا العساكر والجنود، كيف تصنع بنار الوقود.(2/295)
[المَلِك]
قال الوافد: مَن الملك في ذلك اليوم الهويل ؟
قال العالم: ( المَلك، من رضي عنه الملك، النبيل، من استقام على السبيل، الخليل)، من رضي عنه الجليل، الشريف، من هو عن الحرام عفيف، العاقل، من لم يكن عن الله غافل.
يُستقبح من المؤمن كبره، ومن الشيخ كفره، ويُستحسن من المؤمن فقره، حقيقٌ بالتواضع من يموت، وبالبذل من يفوت، المؤمن دنياه فوت، ومعاشه قوت.
وقال في ذلك:
صنيع مليكنا حسن جميل .... فما أرزاقنا عنا تفوت
فيا هذا سترحل عن قريب .... إلى قوم كلامهم السكوت
وقال غيره:
أيها الشامخ الذي لا يرام .... نحن من طينة عليك السلام
إنما هذه الحياة متاع .... ومع الموت تستوي الأقدام
قال الوافد: كيف يهنأنا العيش في هذه الدنيا، وهذه أفعالها في أهلها ؟
قال العالم: بناؤنا للخراب، وأعمارنا للذهاب، ودهرنا إلى انقلاب، والموت يبدد الأحباب، ويفرق الأصحاب، الموت ينزل الملوك من القصور والقباب، إلى القبور والتراب، كل ما عملنا معدود، وعليه حفظة شهود، أعمالنا محفوظة، وأنفسنا مقبوضة، وسيئآتنا علينا معروضة، لنا من كأس الموت شراب، ولنا من بعده سوء الحساب.
طوبى لمن له في الطاعة اكتساب، حتى ينال في الآخرة الثواب، والويل لمن له العقاب والحساب والعذاب، والموت يدخل كل باب، من أخرجه الموت من دار، لم يكن له إليه إياب.
آه غفلنا من اكتساب الخيرات، ولم نستعد للممات، لا بد لنا من الحساب، لا بد لنا من العرض على الملك الوهاب.
( ما أغفلنا عن الآخرة!! ما أغفلنا عن الورود في الساهرة !! ) غفلنا عن الإنتحاب، غفلنا عن الإكتئاب، غفلنا عن الآزفة، غفلنا عن الواقعة، غفلنا عن القارعة، لم نكثر الندامة، لم نذكر القيامة، لم نخف الطآمة.(2/296)
( يا من بارز الله في السر والحجاب، وغلق عليه الأبواب، أتظن أن ذلك يخفى على الملك الوهاب، إنك في دينك مصاب، إن العاصي يسقى في النار من الحميم المذاب، هل معك لمالكٍ خازن النار جواب ؟ أم لك عنده خطاب ؟ أترجو من غير الطاعة الثواب ؟ ما أسوأ حالك عند البعث والحساب! ما أغفلنا عن الرحلة )، ما أغفلنا عن الزلزلة، ما أغفلنا عن الصيحة، ما أجرأنا على الخالق! ما أكفرنا بالرازق! يا ويل كل منافق! إنا راجعون، إنا مسؤولون، إنا موقوفون، إنا مهانون، إنا على سفر، بين أيدينا خطر، ما لنا لا نحذر ؟! هل لنا من مفر ؟! لا ملجأ من الله ولا وزر، إلى الله المستقر، العاقل من ترك ما يهوى، لما يخشى . وفي ذلك يقول، بعد الصلاة على الرسول:
سبحان ذي الملكوت أتت ليلة .... محضت بوجهِ صباحِ يومِ الموقف
لو أن عينا أوهمتها نفسها .... أن المعاد مصور لم تطرف
حتم الفناء على البرية كلهم .... والناس بين مقدم ومخلف(2/297)
[الراغب]
قال الوافد: صف لي الراغب ؟
قال العالم: قَلَّ الراغب، وترك الواجب، ما لله طالب، ولا لعذابه راهب، ولا في ثوابه راغب، ولا عن الذنوب تائب، ولا فتى نفسه لله واهب، بل مدعي كاذب، تارك للحق مجانب، مهمل للسنة والواجب، معانق للخلاف مواضب، مشغوف بالدنيا طالب، إن البكاء على أمثالنا واجب، قبل الوقوع في العذاب الواصب، بين الحيات والعقارب، نفسٌ من الباب طريد، وقلبٌ من النشاط شديد، وعملٌ من المريد بعيد، كأن الفؤاد، صخر أو حديد.
أيها القلب الشديد، أما يكفيك الزجر والتهديد ؟! أما سمعت الوعد والوعيد ؟! ليلك عطالة، ونهارك غفلة، ودهرك مهلة. أليس لك من الجهل نُقلة ؟ ( أيُّ عذر لك غدا أو أي علة ؟! إلى متى العمل والزلة ؟! والمودة في غير الله والخلة ؟!)، أما تخاف موقف الذلة، إذا عرفت عملك كله، وعرضت على عالم التفصيل والجملة، أي ليلة لك وأي يوم ؟! وأي صلاة لك وأي صوم ؟! إلى كم الغفلة والنوم ؟ إلى كم تتبع عادات القوم ؟! إلى كم تحوم في المعاصي حوم ؟! كأني بك وقد وقفت في موقف اللوم ؟! على أي عهد لله أوفيتَ، على أي وعد لله قمت ؟! على أي توبة نمت، أي صلاح إليه رمت ؟! هل صليت لله مخلصا أو صمت، هل قعدت في رضى الله أو قمت.
كأني بك وقد ندمت على إضاعتك، ( أيّ معصية لله تركت، أيّ طاعة لله سلكت، أيّ هوى لنفسك لله خالفت، أيّ ليلة سهرت لربك، أيّ يوم صمت منه خوف ذنبك، هل أعملت في جوف الليل فكرك، قد أذنبت فهل اعتذرت، قد أجرمت فهل ندمت، وقد أضعت فهل أطعت، قد هربت فهل طلبت ؟ تقوَّلت وتخرَّفت، وتوانيت وسوَّفت، وبارزت وخالفت، وعصيت وجاهرت )، وتأسفت على ترك طاعتك، وبكيت عند هجوم ساعتك، وخسرت في تجارتك وبضاعتك، ولم تنتفع بفصاحتك وبراعتك، وذهب ما كان من قوتك وشجاعتك.(2/298)