[المؤمن بين الغافلين]
قال الوافد: كيف يصنع من أصبح مع هؤلاء ؟
قال العالم: يرضى بالله صاحباً، ويعتزل عنهم جانباً، ويل لمن له ذنب مستور وثناء مشهور، وهو عند الله مثبور، ظاهره بالخير معروف، وباطنه بحب الدنيا مشغوف، وهو عن آيات الله مصروف، وثيابه أبيض من الحليب، وقلبه مثل قلب الذيب، باطنه من التقوى خراب، وهو يطمع في الثواب، وهو في الدنيا سكران من غير شراب، ظاهره فيه سيماء العابدين، وباطنه فيه سيماء الجاحدين، مقالتهم مقال الأبدال، وفعلهم فعال الجهال، ( سيرته سيرة المغترين، وأمله أمل المفتونين، فهذا ) من المطرودين، عن باب رب العالمين.
( مالي أرى الناس يركبون الشرور ؟! ويدخلون في المحذور ؟! ويضيعون الأيام والشهور ؟! إلى متى ) يسوفون التوبة ويلبسون ثياب الزاهدين ؟! ويُضمرون أسرار الظالمين ؟!
ألا وإن أبعد الناس من الله عبد نظر إلى عيب أخيه المسلم، ولم ينظر إلى عيب نفسه، إن رأى لأخيه المسلم حسنة سترها، وإن رأى سيئة نشرها، فذلك جزاؤه جهنم وبئس المصير . من لم يميز بين الحلال والحرام، أسرعت إليه أسهم الإنتقام، من أسف على شيء من الدنيا يفوته، كثر نزاعه عند موته.(2/289)
[الهالك]
قال الوافد: صف لي الهالك المتأسف ؟
قال العالم: هو الذي يتأسف على رزق لم يأته، وينتظر مالا وربما لم يستوفه، يخُاف شره، ولا يُرجى خيره، يُظهر حزنه، ويكتم شره، فهو مرتبط بالنفاق، معاند بالشقاق، سيئ الأخلاق، قرين المحال، قريب الخجال، قليل النوال، قد رضي بالقيل والقال، ولا يسلك سبيل النجاة، ولا يخاف المفاجاة، ظاهره مع أهل الدين، وباطنه مع المنافقين، قد باين الفرقان، وأغضب الرحمن، فقلبه لا يخشع، وعينه لا تدمع، ونفسه لا تشبع، قد آثر العمى على الهدى، وبدَّل الدين بالدنيا، وفي ذلك أقول، بعد الصلاة على الرسول:
مضى عمري وقد حصلت ذنوب .... وعزَّ عليّ أني لا أتوب
نطهر للجمال لنا ثياباً .... وقد صدئت لقسوتها القلوب
وأعربنا الكلام فما لحنا .... ونلحن في الفعال فلا نصيب
قال الوافد: أسأل الله تعالى سلوك طريق الأخيار، ومجانبة طريق الفجار.
قال العالم: إن الله سبحانه وتعالى قد بَيَّن لعباده طريق الهدى، وحذرهم المخاوف والردى، بعث إليهم رسولاً، وجعل القرآن لهم دليلاً، وركّب فيهم عقولاً، وأمرهم ونهاهم، وخيَّرهم ومكنهم، وأعد ثواباً، وعقاباً، فمن أطاع وفّاه ثوابه، ومن عصاه ضمّنه عقابه، فإياك والظلم والعدوان، والإقدام على الزور والبهتان، وعليك بالعدل والإنصاف، والبذل والإلطاف، ولا تظلم أحداً فإن الظالم نادم، والظلم يخرب الدار، ويفرد الجار، ( ويثير الغبار، ويسخط الملك الجبار )، ومن أكبر المصائب والحسرات، المأخوذ يوم القيامة بالتبعات، يوم لا شفيع يشفع، ولا دعاء يرفع، ولا عمل ينفع، يوم لا ينفع الظالم ندمه، وقد زلت به قدمه، وقد شهدت عليه جوارحه، فيا حسرة الظالم ويا ويحه!!(2/290)
[الاعتبار]
قال الوافد: كيف يكون الإعتبار ؟
قال العالم: انظر إلى الذين جمعوا كثيرا، وبنوا كثيرا، وأملوا طويلا، وعاشوا قليلا، هل تسمع لهم حسا ؟! أو ترى لهم في القبور أنسا، سكنوا في التراب، واغتربوا عن الأصحاب، ولم يسلموا من العقاب، حملوا ثقيلا، وعاينوا وبيلا، وصارت النار لهم منزلا ومقيلا، وعرضت عليهم جهنم بكرة وأصيلا، لا يطيقون قبيلا، ولا يسمعون جميلا، ولا يرجون تحويلا، ولا يملُّون عويلا.
أين الذين شيدوا العمران ؟ ! وشرفوا البنيان ؟! وعانقوا النسوان، ؟! وفرحوا بالولدان ؟! وجمعوا الديوان ؟! وتملكوا البلدان ؟! وغلقوا الأبواب ؟! وأقاموا الحجاب ؟!
أما رأيت كيف دارت عليهم الدوائر ؟! وخلت منهم المكاثر ؟! وتعطلت منهم المنابر ؟! وضمتهم المقابر ؟! وغيبتهم الحفائر ؟! وتمزقت جلودهم ؟! وتفرقت جنودهم ؟!ورجعت قصورهم خرابا ؟! ودورهم يَبابا ؟! وأجسادهم ترابا ؟! أين ملوكهم ؟! أين ديارهم ؟! أين أحبارهم، أين مواكبهم ؟! أين مراكبهم، أين خيلهم، أين مواليهم، أين أنصارهم، أين عددهم، أين وزراؤهم، أين ندماؤهم، أين أمرآوهم، أصبح غنيهم فقيراً، وأميرهم حقيراً !!!
هل بقي الذكر إلا لمن أطاع مولاه، ورفض في رضاء الله دنياه، وخالف مِن خوفِ الله هواه ؟ وقدم الخير لعقباه، فدخل دار السرور، وكفاه الله كل محذور، دارٌ فيها الأمان، والحور الحسان، والأكاليل والتيجان، والوصائف والغلمان، والأنهار الجارية، والأشجار الدانية، والنعمة الوافية، والسرر المصفوفة، والموائد المعروفة، والفرش المرفوعة، والأكواب الموضوعة، والخيام المضروبة، والقصور المنصوبة، تلك دار اليقين، ومحل الصالحين، ومأوى المؤمنين.(2/291)
قال في ذلك شعراً:
تنام ولم تنم عنك المنايا .... تنبه للمنية يا ظلوم
وحق الله إن الظلم شؤم .... وما زال المسيء هو الملوم
إلى الديان يوم الدين نمضي .... وعند الله تجتمع الخصوم
سل الأيام عن أمم تفانت .... فتخبرك المنازل والرسوم
تروم الخلد في دار المنايا .... وكم قد رام مثلك ما تروم
وقال في ذلك أيضا:
أعارك ما َله لتقوم فيه .... بطاعته وتعرف فضل حقه
فلم تشكر لنعمته ولكن .... قويت على معاصيه برزقه
تبارزه بها يوما وليلا .... وتستحيي بها من شر خلقه
ثم قال: ما أسوأ حال من يصلي ويصوم! ويسهر ويقوم! ثم يحفر بئراً لأخيه! لا يدري أنه يقع فيه.
قال الشاعر:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله .... إذا كنت فارغا مستريحا
وإذا هممت بالزور والبا .... طل فاجعل مكانه تسبيحا
[وقال:]
اغتنم ركعتين عند فراغ .... فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت غير سقيم .... ذهبت نفسه الصحيحة فلتة(2/292)
[التواضع]
قال الوافد: كيف التواضع ؟
قال العالم: يا عجبا ممن خلقه الله من نطفة!! ورزقه من غير كلفة!! كيف لا يلزم التواضع والعفة ؟! وعجبا ممن خُلق من ماء مهين! كيف يغتر بمال وبنين ؟! وعجبا ممن أصله من التراب والطين! كيف لا يتواضع للفقراء والمساكين ؟! كيف يضحك ويعجب ؟! ويلهو ويطرب ؟! ويفتخر ويلعب ؟! والقبر منزله، والتراب وساده، لا يعتبر، ولا يستغفر، أليس بعد الغنى الفقر ؟! وبعد العمارة القبر ؟! كيف يتكبر مَن أوله من تراب ؟ووسطه ريح في جِراب ؟! وآخره ميتة في خراب ؟! كيف يفرح بالمنى ؟! من هو عرض للفناء ؟! كيف يطمئن بالسرور ؟! من تعجله المنية للقبور ؟! وكيف يفرح بمضاجعة النواهد ؟! من يضاجع الدود غدا في الملاحد.
أيها المعجب بالدنيا وشبابه، المختال في مراكبه وثيابه، المفتخر بأهله وأصحابه، انظر إلى المنقول من أترابه، إلى ظلمة اللحد وترابه، أيها المفتخر برجاله وأمواله، المعجب بأحواله وأشغاله، انظر المقبور وتفكر في حاله، أيها المتطاول بعشائره وأحبابه، المسرور بعلومه وآدابه، انظر إلى المُغافَص في شبابه، المختطف من بين أحبابه، هل منع عنه حجابه، أو تبعه أصحابه.
أيها الجامع أنواع العلوم، هل تعلم ما سبق لك في المعلوم ؟! أتدري أمقبول أنت أم محروم ؟! أمحمود عند ربك أم مذموم ؟!
يا صاحب العلم والإفادة، أمعك خبر من الشقاوة والسعادة، أيها الناظر في الدقائق، ألك أمان من البوائق ؟! هل علمت بالحقائق ؟! حتى رضي عنك الخالق، ما حيلتك إن هتك سترك غدا في مشهد الخلائق ؟!(2/293)