[جهاد النفس]
قال الوافد: كيف المجاهدة ؟
قال العالم: المجاهدة في المباعدة والوحدة، والصبر على المحنة والشدة، من لا عبادة له لا زاد له، ومن لا زاد له لا عقبى له، اقرع الباب، يأتيك الجواب، من أمَّل العظيم، وُهِبَ له الجسيم، من أراد الجود، أدام السجود، من لا سجود له لا جود له، من لا ندامة له لا كرامة له، من لا خير فيه، لا خير عنده، خير البضاعة الطاعة، من عمل بالطاعة، نجا من فزعات الساعة، لا بد من سهر الأسحار، وقيام الليل وصيام النهار، إذا أردت الجنة فاسجد وتضرع، واظمأ وتجوَّع، واسهر وتطوع، وتذلل وتخشع، وتفرد وتوحد واخضع وتجرد، تنل فضل الواحد الأحد، اترك الآثام تأمن الصَّولة، واعمل صالحا تكن لك الدولة، واهجر الجرائم، تصل وأنت سالم. مَن أكثر النحيب، لم يكن عليه رقيب، وما دعا إلا أجيب، وكان له من كل خير نصيب، من رغب إلى الله أعطاه، ومن اكتفى به كفاه، ومن استغنى به أغناه، ومن لجأ إليه آواه.
قال الوافد: كيف أكون ذاكراً وأنا لا أسلم من الغفلة ؟
قال العالم: لا تقع العلة، إلا فيمن أكثر الغفلة، من غفل، وقع في الزلل، إذا أردت السعادة، فودع الوسادة، وجالس أهل الزهادة، وأكثر العبادة.
عجباً ممن يستريح وقد تاب، ويلهو وقد شاب، ما كان في الله تلفه، كان على الله خلفه، اجتهد تجد، وأخلص تخلص، اتبع الرسول، وأبشر بالوصول، من اتصل، وصل، ومن ترك الجدال، نال خير منال، وكفي الشدة والأهوال، من خالف هواه، كانت الجنة مآواه، ومن ندم، أُكرم.
قال الوافد: فما حيلة من دنا من الباب، فمنعه الحُجَّاب، فلم يصل إلى الأحباب ؟(2/284)


قال العالم: حيلته ملازمة القلق والإكتئاب، والحزن والإنتحاب، والفَرَق والإنتداب، حتى يأذن له الاحباب، ويُفتح له الباب، إذا أردت في الجنة الوقوف، فأكثر في المساجد العكوف، فإنك تأمن من كل مخوف. كم من متردد لا يؤذن له ؟! وطارق لا يفتح له، ( وكم من مصروف مطرود، مهان مردود )، وكم من مُظهِر انتحابه، وهو لا يفتح له بابه، وكم من طامع في ثوابه، هو من أهل عذابه.
قال الوافد: فكيف الوصول ؟
قال العالم: تصل الليل بالنهار، وتتضرع في غسق الأسحار، وتسبح بالعشي والإبكار، وتتعود الندم والإستغفار، لعل الله يخفف عنك ثقل الأوزار، ويُحرِّم بدنك على النار.(2/285)


[الندم والتوبة]
قال الوافد: كنا صبياناً فلعبنا، فصرنا شباباً فسكرنا، فصرنا كهولا فكسلنا، فصرنا شيوخاً فعجزنا وضعفنا، فمتى نعبد الله ربنا، عطلنا الشباب بالجهالة، وأذهبنا العمر في البطالة، فأين الحجة والدلالة ؟
قال العالم: من غفل في وقت شبابه، ندم في وقت خضابه، الشباب لا يصبر على الصواب، ويندم عند الخضاب، ما أحسن الشاب في المحراب! إلى متى العصيان ؟ إلى متى متابعة الشيطان ؟ إلى متى الجرأة على الرحمن ؟ ألا تحذر لباس القطران، وتهدد مالك الغضبان، وضرب الزبانية والأعوان، ألا تَفِرّ من اليوم الفاني، إلى اليوم الباقي، ألا تتزود من هذا اليوم لذلك اليوم، وتتخلص من الهوان واللوم.
أيها المغرور بشبابه، والمسرور بأصحابه، والمختال في أثوابه، أما تحذر أليم عذابه، وتخاف شديد عقابه، كم من وجه صبيح، وخد مليح، وبدن صحيح، ولسان فصيح، أصبح في العذاب يصيح، بين أطباق النار لا يستريح.
كم من شاب ينتظر المشيب، عاجله الموت وأحل به النحيب، كم من مسرور بشبابه، عاجله الموت من بين أحبابه، إلى قبره وترابه.
أيها الشاب الجهول، إنك في التراب منقول، وعلى النعش محمول، وعن أعمالك مسئول. مالك لا ترجع ؟! مالك لا تفزع ؟! مالك لا تخضع ؟! مالك لا تخشع ؟! آه من يوم يقول فيه المولى: عبدي شبابك فيم أبليته ؟! وعمرك فيما أفنيته ؟! فلا تنظر إلى الشباب وطراوته، ولا تغتر بحسنه وملاحته، ولكن انظر إلى صرعته وندامته.
ما أحسن الإياب بالشاب! وما أقبح الخضاب لمن قد شاب وما تاب! ما بقاء الشيخ في الدهر، إلا كبقاء الشمس على القصر، في وقت العصر. الشيب داعي الموت، وناعي الفوت، الشيب يؤذن بالفراق، ويخبر بالتلاق، الشيب ظاهره وقار، وباطنه ازدجار، الشيب يكدر المنى، ويكثر العناء، الشيب كسل في كسل، وعلل في علل، وملل في ملل، وخلل في خلل، وآخره كلل، وتقريب الأجل، وقطع الأمل.(2/286)


فلما بلغ كلام العالم والوافد إلى هذا الحد قال له العالم: ما أسوأ عبدٍ يقرب منه الأجل، وهو يسيء العمل! ما أسوأ عبدٍ ظهر فيه الخلل، وهو يكثر الزلل! من شابت ذوائبه، جفته حبائبه، أين الإستعداد ؟ أين تحصيل الزاد ؟ وأنت للذنوب تعتاد، وقد ناداك المناد، أين الراجع إلى الله ؟ أين المشتري نفسه من الله ؟ [أين الخائف من] ربه ؟ أين النادم من ذنبه ؟ أين الباكي على أمسه ؟ أين المستعد لرمسه ؟ أين الطالب للثواب ؟ أين الخائف للعذاب ؟
ألا ترجعون إلى الهدى! ألا تُقبلون إلى الله! ألا تخافون من عذاب الله! ألا تطمعون في ثواب الله! ألا تقتدون بأولياء الله! ألا تتوبون من الذنوب! ألا ترجعون عن العيوب! ألا تندمون على ما أسلفتم! ألا تعترفون بما أقترفتم! ألا تستغفرون لما أجرمتم!!
أما آن للقلوب أن تخضع ؟! أما آن للعيون أن تدمع ؟! أما آن للصدور أن تجزع ؟! أما آن للعاصي أن يفزع من الذنوب ؟! أما آن للخاطئ أن يرجع عن العيوب ؟! أما تعلم أيها العاصي أنه لا تخفى خافية على علام الغيوب ؟! أما تعلم أنك مأخوذ مطلوب ؟! ومتعتع في النار مسحوب ؟! أما تعلم أنك مفارق لكل صديق ودمعك على خديك مسكوب ؟! أما تخاف أن تصبح وأنت عن رحمة الله محجوب ؟! وعلى حُرِّ وجهك في النار مكبوب ؟! فياله من جسد متعوب!! ودمع مسكوب!! وقلب مكروب!! وعقل مرعوب!!!
قال الوافد: كيف أحتال في الخلاص ؟
قال العالم: أما تعتبر ؟! أما تزدجر ؟! أما تستغفر ؟! أما لك فيمن مضى عبرة ؟! أما لك فيمن مثلك فكرة ؟! إلى متى هذه الجفوة والفترة ؟! إني أخاف عليك الشقوة والحسرة ؟! فكم هذه الغفلة الغامرة ؟! والقسوة الحاضرة، أما تغتنم أيامك ؟! أما تمحو آثامك ؟! أما تكفِّر إجرامك ؟! أما تحذر ما قدامك ؟! أنسيت ما أمامك ؟! أما تنتبه من رقادك ؟! أما تتأهب لمعادك ؟! أنسيت اللحد وضيقه ؟! أنسيت القبر وظلمته ؟! أغفلت عن البعث والنشور ؟! يوم يظهر كل مستور، ويُحصَّل ما في الصدور.(2/287)


إلى متى تعلَّل بالأماني الكاذبة ؟! وتضيِّع الحقوق الواجبة ؟! دفنت الأحباء فلم تعتبر، وغيبتهم في الثرى فلم تزدجر، ما للناس لا يرجعون ؟! يوعظون فلا يتعظون، ينهون فلا ينتهون، ينادون فلا يسمعون، ? استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ? [المجادلة: 19]. ( وغشي على قلوبهم الران فالقلوب مسودة متباعدة، والأجسام منافقة متوآدة ). يقولون مالا يفعلون، يأملون مالا يبلغون، ? وإذا قيل لهم أركعوا لا يركعون ? [المرسلات: 48]. وإذا أُمروا بالطاعة لا يطيعون، ويجمعون مالا يأكلون ولا يلبسون، بل هم يكذبون ويسرقون، وينافقون ويحلفون، ويعدِون ويخلفون، ويرآؤون ويبخلون، فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون ؟! ويجمعون مالا يأكلون، ويمنعون مالا ينفقون، ويبنون مالا يسكنون، ويقطعون ولا يصلون، ينافقون ولا يخلصون، لا من الله يخافون، ولا منه عند المعاصي يستحيون، ينامون نوم البهائم، ثم نسوا يوماً يؤخذ فيه بالجرائم، لاالله يخافون، ولا عقابه يحذرون، يصبحون، على خلاف ما يمسون، هممهم دنية، وأعمالهم ردية، وأحوالهم غير مرضية.(2/288)

143 / 201
ع
En
A+
A-