لا حيلة لي غير الرجوع، والتضرع والخضوع، والإقبال والإياب، وتعفير الوجه في التراب، والتذلل عند الباب، وقراءة آيات الكتاب، والسجود لرب الأرباب، وترك الإشتغال بالأشغال، والإقبال على مقدِّر الأرزاق والآجال، وترك المعارضة، ورفض المناقضة، وحنين وحرقات، وأنين وزفرات، وسهر دائم، وليل قائم، ونهار صائم، وقلب هائم، ووعظ لائم، فرار، بلا قرار، فراق كل محبوب، والبين عن كل منسوب.
الحيلة ترك الإستراحة، في طلب الراحة، ودوام النياحة، مع القيام على السياحة، وترك الخطايا، واستعداد المطايا.
الحيلة أن تخضع حتى تسمع، ويخاف القلب ويخشع، وتعبر العين وتدمع، اقرع الباب، يأتيك الجواب.
قال الوافد: قد سمعت لذيذ المناجاة، كيف أصنع في داء قد تمكن في قلبي حتى أقلعه وأحسمه ؟
قال العالم: من أوجعته علته، أظهر عند الطبيب زلته، وأبدى إليه شكيته، مَن عدم مراده، قلق فؤاده، ومَن قلق فؤاده، بان منه رقاده، ارفع خواطر القلب إلى الرب، فهو يجلي الكرب، ويغفر الذنب، ارفع حوائجك إلى ربك، كما ترجوه لغفران ذنبك، اكتب قصة الإعتذار، بقلم الإفتقار، امش إلى باب الجبار، بقدم الإضطرار، في وقت الأسحار، وارفع يديك بالإستغفار.(2/279)


[البكاء]
قال الوافد: فما تقول في البكاء ؟
قال العالم: لأن تبكي وأنت سليم، خير من أنت تبكي وأنت سقيم، وفي النار مقيم بين أطباق الجحيم، والشيطان لك قرين خصيم.
واعلم أنك دخلت الدنيا عند خروجك من بطن أمك باكيا عابساً، فاجهد أن تخرج منها ضاحكا مستأنسا، لأن تبكي وأنت في الطريق، خير من أن تبكي وأنت في وسط الحريق، البكاء مع السلامة، خير من البكاء مع الملامة، اليوم ينفعك البكاء لو بكيت ندماً، وغداً لا ينفعك البكاء لو بكيت دماً، البكاء قبل المعاينة، خير من البكاء يوم المباينة، ابك لضعف فاقتك، ابك لقلة طاقتك، ابك لكثرة معاصيك، ابك لعظم مساويك، ابك لإفلاسك، ابك لعدم إيناسك، ابك لقلة عملك، ابك لقلة حيلتك، ابك لعدم وسيلتك، ابك لكثرة وزرك، ابك لثقل ظهرك، ابك لفساد أمرك، ابك لظلام قبرك، ابك لقسوة قلبك، ابك لخبث سرك، ابك لمضي دهرك، ابك لكشف سترك، ابك لساعة موتك، ابك لانقطاع حياتك، ابك لغربتك في لحدك، ابك لتوديع دارك، ابك لتوقع قرارك، ابك اليوم بوارك، ابك لاستقبال أهوالك.
قال الوافد: كيف أصنع إذا لم أستطع البكاء ولم تدمع العين ؟!
قال العالم: ما جمدت العيون إلا بقساوة القلوب، وما قسات القلوب إلا من كثرة الذنوب، وما كثرة الذنوب إلا برضى للعيوب، وما وقع الرضى بالعيوب إلا بعد الإجتراء على علام الغيوب، جمود العين، من وجود الرين. وقال في ذلك:
تزَّود من حياتك للممات .... ولا تغترَّ في طول الحياة
أترقد والمنايا طارقات .... كأنك قد أمنت من البيات
أتضحك أيها العاصي وتلهو .... ونار الله تسعر للعصات
أتضحك يا سفيه ولست تدري .... بأي بشارة يأتيك آت
فيا قلبي فلم تزدد رجوعا .... وتعرض عن عظات ذوي العظات(2/280)


ثم قال: أتبغي صفاء الفؤاد، مع بقاء المراد، تُضيع الأصول، وترتكب الفضول، ثم تطمع بالوصول، وأنت لا تتبع ما جاء به الرسول، أتطلب الزاد، مع كثرة الرقاد، وقلة الإجتهاد، أتطلب المساعدة مع قلة المجاهدة، إن هذا من علامات المباعدة !!! لن تنال الأماني إلا بترك الفاني، لا بالكسل والتواني، أسهر العيون، تصبح غير مغبون، لن تنال الجِنان، إلا بصفاء الجَنان، وخالص الإيمان، وقراءة القرآن، وتوحيد الرحمن، وإطعام الطعام، ورحمة الأيتام، وكثرة الصيام، وطول القيام، من طالت مناجاته ارتفعت درجاته، وقلَّت في القيامة فزعاته.(2/281)


[عناصر الإيمان]
قال الوافد: بما ينال العبد جنة الخلود ؟
قال العالم: بحفظ الحدود، وبذل المجهود، وطاعة المعبود، والوفاء بالعهود، وكثرة الركوع والسجود. من أراد الأمان، فليخلص الإيمان، ويفعل الإحسان، ويقرأ القرآن. لن ينال جنة النعيم، إلا من جاء بقلب سليم، لن تنال من الله المزيد، إلا بصدق التوحيد، وكثرة التمجيد للواحد الحميد، من أراد البر، لم يكتسب الوزر، من أراد العطاء، صبر على الأذى والبلاء.
لن تنال شهوات الآخرة إلا بترك شهوات الدنيا، ( لن تنال النعيم، إلا بترك النعيم، لن تنال معانقة الحور، إلا بصلاح الأمور )، ومجانبة الشرور، ورفض المحذور، لن ينال الشفاعة، إلا من قام لأخيه المؤمن بالنفاعة، وحافظ على صلاة الجماعة، وأطعم الأيتام في المجاعة، من أحب الشرب من حوض الرسول، فليترك كلام الفضول، وتثبَّت فيما يقول، فإنه لا بد مسؤل.
قال الوافد: صف لي الحياء ؟
قال العالم: من عمل بالرياء فُقِد منه الحياء، وحجب منه الضياء، وتكدرت عليه الدنيا، وعاش في الناس يهودياً، وحشر يوم القيامة مجوسياً.
قال الوافد: كيف أنال حلاوة الطاعة ؟
قال العالم: لا تدرك الحلاوة، إلا بإدمان الفكر في التلاوة، ولا تنال حقائق المعاني إلا بترك الأماني، ولا يتمكن في قلبك الخوف والوجل، إلا برفض الدنيا وقصر الأمل، وإخلاص العمل، وهجران الكسل.(2/282)


[الورع]
قال الوافد: صف لي محض الورع ؟
قال العالم: لن تنال الورع، إلا بكثرة الخوف والفزع، واختيار الجوع على الشبع، وترك الشهوات والطمع، [فإن فعلت زكى لبك]، وصفا عند ذلك قلبك، ونلت لذيذ السهر والقيام، وقربت من ذي الجلال والإكرام، وملكت نفسك، ووافقت أنسك، ورضي عنك الرب، وغفر لك الذنب.
واعلم أنك لا تنال من الله البرّ والسلامة، إلا بالصبر والإستقامة، ولا تنال حقائق الرجاء، إلا بالإنقطاع إلى الله والإلتجاء، ولا تنال الكرم والتَّفَضُّل، إلا بالندم والتذلل، ولا تنال الراحة، إلا بترك الراحة وكثرة البكاء والنياحة، ولا تنال الولاية، إلا بالحراسة والعناية، ولا تنال مجاورة الأبرار في دار القرار، إلا بترك الأوزار، ولا يخشع القلب ويلين، إلا بتفكر وتبيين، ولا تنال الخوف، إلا بترك عسى وسوف، ولا تنال الإتصال، إلا بإهمال الإشتغال، ولا ينقى القلب، مع بقاء شيء من الذنب، ولا تدرك صفاء الفهم، وفي قلبك من الدنيا همٌّ، ولا يزول عنك الهم، ما دام لك في الدنيا خصم، من أنفق مما يحب، فهو حقاً المحب، من ترك ما كان يألف، دخل الجنة وثوابه مضاعف، من عمل بما أقول، شفع له الرسول، من عمل بغير ما أقول، لم يكن عمله مقبول، من لم يندم على معصيته، أخذته زبانية النار بناصيته، من قصر في الطاعات، حرم الصالحات، من نافس في الخيرات، ارتقى في أعلا الدرجات، من اغتر بالليل فجع بالنهار، ومن سهى بالنهار فجع بالليل، من ركب الظن، غُبِن أيَّ غَبن، من ركب فرس الأماني، عثر في ميدان التواني، التاجر برأس مال غيره مفلس.(2/283)

142 / 201
ع
En
A+
A-