قال العالم: الإستقامة هي: أن ترى الدنيا قيامة، فلا تلتفت فيها إلى كرامة، ولا تبالي فيها بالملامة، والإستقامة تؤدي صاحبها إلى السلامة، والمستقيم صادق، وبالحق ناطق، عمله في خضوع، وقلبه في خشوع، وروحه في رجوع، وسروره في نزوع، وجسمه سقيم، وقلبه سليم، مقيم بلا التفات، مداوم على المراقبات، ملازم للأمر، مدمن على الزجر، طالب للأجر، تارك للهوى، مقيم على الوفاء، حريص على التقى، مجتهد في الصفاء، ليله قائم، ونهاره صائم، إلف مُؤآلف، صابر عاكف، تآم الصحبة، دائم المحبة، مجيب، غير مريب، مفوض، غير متعرض، مطيع، غير مريع، طالب راهب، مسلم مستسلم، مقر لا منكر، محتقَر لا محتقِر، متواضع غير مستكبر، مقبل غير مدبر.
وعلامة المستقيم أن يستقيم به كل معوج، ويُسلَك به خير منهج، ويكون عالما يهتدى به، ودليلا يقتدى به، ولا يكون مـ? من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ? [الحج: 11].
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: أما علمت أن الدنيا شدة ورخاء.
قال: بلى.
قال: فليكن حالك في الشدة كحالك في الرخاء.
قال: بيِّن لي ذلك يرحمك الله ؟
قال: أليس في الرخاء حساب، والشدة ثواب ؟
قال: بلى.
قال: أيهما أحب إليك الثواب أم الحساب ؟
قال: بل الثواب.
قال: أما علمت أنك في وقت الشدة ترجو الرخاء، وفي وقت الرخاء تخاف الشدة، وذلك قوله عز وجل: ? إن مع العسر يسراً?[الإنشراح: 6]. فتعَّرف حد الشدة فتكون راجيا، وتعَّرف حد الرخاء فتكون خائفا، لأن الرخاء والشدة يعتقبان، فاستعد للحالين جميعاً. ولست أعني لك شدة الدنيا ولا رخاءها، إنما عنيت بذلك الآخرة، لأن ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ).
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الرضى بالقضاء، والصبر على البلاء، والشكر على العطاء.(2/274)
[الحمد والشكر]
قال الوافد: وكيف يكون الشكر ؟
قال العالم: الشكر على سبعة أشياء.
قال: وما هي ؟
قال: الخلق، والمِلك، والرزق، والعافية، والعلم، والقِدَم، والقدرة. فتنظر إلى ثبات عقلك، وتمام خلقك، فتحمد الله العظيم على ذلك كثيرا.
ثم تنظر إلى الملك كم من ذي روح غيرُه له مالكٌ، والله مالك كل شيء، وأنت لا مالكَ لك، فتحمد الله على ذلك كثيرا. ثم تنظر إلى مالك وولدك وطعامك وشرابك، ولباسك ونومك وإيقاظك، وتنظر إلى اختلاف الليل والنهار، كيف يقربان البعيد، ويبليان الجديد. ثم تنظر إلى العافية، وإلى كل شيء تخافه على نفسك في ليلك ونهارك، مما تراه ومما لا تراه! فتعلم أنه لا يدفع ذلك ولا يصرفه، ولا يكفيك ما ترى وما لا ترى، إلا الله سبحانه وتعالى، فتحمد الله على ذلك كثيرا.
ثم تنظر إلى المصائب التي تصيب الناس في أبدانهم المركبة عليهم، فتعلم أن في تركيبك مثل ما في تركيبهم، فتحمد الله الذي ستر عليك ما ظهر على غيرك من العلل والآفات.
ثم تنظر إلى مَن كان مِن قبلك وإلى من هو كائن من بعدك في دنياك وآخرتك.
ثم تنظر إلى القِدم فتعلم أن الله قديم لم يزل ولا يزول.
ثم تنظر إلى القادر فتعلم أن الله قادر لا بقدرةِ غيره، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
ثم تنظر إلى العلم فتعلم أن الله قد علم ما هو كائن قبل أن يكون.
ثم تنظر إلى ما سخر لك الله من جميع الخلق، وذرأ وبرأ من السماء التي زينها بالكواكب والشمس والقمر، وأجرى ذلك لمنافع الخلق. وما جعل من الرياح والسحاب، وما جعل في الأرض من الحيوان المسخر المجبور المقهور المنقاد إلى المنافع، فتحمد الله على ذلك كثيرا.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الصبر على قضاء الله سبحانه، فما جاء من عند الله حمدت الله عليه، ولم تسخط ذلك وسلمت الأمر لله، ورضيت بقضاء الله وحمدت الله على ذلك كثيراً.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟(2/275)
قال العالم: تنظر بعد ذلك إلى نفسك، وتعلم أن الله خلق الإنسان من نطفة تقع في رحم مظلم، فتقيم في الرحم ( سبعة أيام، ثم ترجع دما فيكون ذلك الدم علقة ) أربعين يوما، ثم يجعلها الله مضغة ذكراً أو أُنثى، فيكون فيه الروح لسبعة وسبعين يوماً، ثم يخلق الله له العروق والعظام والعصب، ثم يصيره الله تعالى بعد ذلك لتمام مائتين وسبعين يوماً، وذلك ستة آلاف وأربع مائة وثمانون ساعة، فجميع حمل الولد لتمام حمل أمه كاملة أشهره وأيامه وساعاته.
فأشهره تسعة أشهر، كل شهر ثلاثون يوماً، وأيامه مائتان وسبعون يوماً، وساعاته ستة آلاف وأربع مائة وثمانون ساعة، فهذه أيام الولد كاملة، أشهره وأيامه وساعاته.
وفي تركيبه الحرارة والبرودة، واليبوسة واللين. فالدم حآر ليِّن، والمِرَّة الصفراء حآرة يابسة، والمِرَّة السوداء باردة يابسة، والبلغم بارد رطب.
وتركيب الإنسان إثنا عشر وصلة، وله مائتان وثمانية وسبعون عظما، وله ثلاث مائة وستون عِرقا، فالعروق تسقي الجسد، والعظام تمسكها، والعصب واللحم يشدها.
ولكل يد أحد وأربعون عظما، فللكف من ذلك خمسة وثلاثون عظما، وللساعد عظمان، وللعضد عظم، وللتراقي ثلاثة أعظم، وكذلك اليد الأخرى، وللرِّجل ثلاثة وأربعون عظما، للقدم من ذلك خمسة وثلاثون عظماً، وللساق عظمان، وللركبة ثلاثة أعظم، وللورك عظمان، وكذلك الرِّجل الأخرى.
وللصلب ثمانية عشر فقاراً، ولكل جنب تسعة أضلع، وللرقبة ثمانية أعظم، وللرأس ستة وثلاثون عظما، وللأسنان من ذلك اثنان وثلاثون عظماً. وطول الأمعاء سبعة أذرع.
فسبحان خالق الإنسان ?خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو? [الزمر: 6] !!(2/276)
حتى إذا حان أوان خروجه من بطن أمه إلى الأرض، لم يقدر أحد على إخراجه أبداً، ولو اجتمعت الإنس والجن ما أحسنوا ذلك، فسبحان من أخرجه سويا لا يعرف أحدا، ولا يسأل رزقا قد أوجد الله له رزقه في صدر أمه لبنا يغذوه به لضعفه وقلة بطشه.
حتى إذا جلَّ عظمه، وكثر لحمه، وقطع سنه، وطحن ضرسه، وبطشت يده، ومشى على قدميه، وعرف أن الله خالقه، وأنه الذي أفضل عليه رزقه في بطن أمه، وبعد خروجه في مهده، نسي ذلك كله وجحده، وجعل يطلب رزقه من مخلوق مثله، !!! ?قتل الإنسان ما أكفره?[عبس: 17]. أما علم أن الذي رزقه في ضعفه هو الذي يرزقه في وقت قوته ؟! أما سمع ما قال الله تعالى في كتابه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ? لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ? [طه: 132]. أما سمعت قول الله تعالى حيث أقسم في كتابه فقال عز من قائل: ? وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ? [الذريات: 22 – 23].
أما سمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال ( لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها )، وقال: ( لو أن أحدكم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت ). وقيل لأمير المؤمنين علي عليه السلام يا أمير المؤمنين: ( من أين يأتي الرزق إلى الإنسان ؟ قال: من حيث يأتيه الموت ) .
قال الوافد: أيها العالم الحكيم أخبرني ما أفضل ما أُعطي العبد ؟
قال: العقل الذي يعرف به نعمة الله ويعينه على شكرها، وقام بخلاف الهوى، حتى عرف الحق من الباطل، والضر من النفع، والحسن من القبيح.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الإيمان، وحقيقة الإيمان: الإخلاص وصدق النية، حتى إذا عملت عملا صالحاً لم تحب أن تذكره، وتُعظَّم من أجل عملك، ولا تطلب ثواب عملك إلا من الله، فهذا هو إخلاص عملك، فإن عملت عملا وأحببت أن تُذكر وتُعظَّم من أجله، فقد تعجلت ثوابه من غير الله، ولم يبق لآخرتك منه شيء.(2/277)
[المناجاة]
قال الوافد: فما تقول في المناجاة ؟
قال العالم: لا تكون المناجاة، إلا على الرجاء والمصافاة، بقلب سليم من الآفات، والظنون والغيبات، ثم تقول: إلهي إن لم أكن لحقك راعياً، لم أكن لغيرك داعياً، وإن لم أكن في طاعتك مسابقاً، لم أكن لأعدائك مطابقا، وإن لم أكن لك عابداً، لم أكن لآياتك معانداً، وإن لم أكن لحبك واجداً، لم أكن لغيرك ساجداً، وإن لم أكن إلى الخيرات مسارعا، لم أكن لباب الخطيئات قارعاً، وإن لم أكن لحدودك حافظاً، لم أكن بكلام السوء لافظا، وإن لم أكن في الصلاة خاشعاً، لم أكن لأعدائك خاضعاً، وإن لم أكن في سبيلك مجاهداً، لم أكن لدليلك جاحداً.
إلهي كيف يصافيك من لا يأتيك ؟! وكيف يرجوك من لا يتقرب إليك ؟! أنا المتخلف عن أقراني، أنا الضعيف في أركاني، أنا الفريد بحفرتي عن إخواني، أنا الذي لم أحقق إيماني، سيدي قد أتيتك بفاقتي، وجئت إليك لما عدمت طاقتي، أنت العالم بجُرمي، المطلع على ظلمي، المحصي لخطيئتي، الشاهد على طويتي، الناظر لي في خلوتي.
إلهي كسدتْ بضاعتي، وخسرتْ تجارتي، ولم اتزود من حياتي، وقد أتيتك وقد قربت وفاتي.
إلهي إن لم تقبلني فأين الملجأ، وإن رددتني فأين المنجا، وإن لم تغفر لي فأين الملتجا ؟!!! من للعبد إلا مولاه ؟! ذهبت أيامي، وبقيت آثامي، فلا تذل مقامي، ولا تحجب عني أمامي، يا من ابتدأني بفضله، وأكرمني بتطوله.
ما الحيلة أعضائي ذليلة، ما الحيلة أحزاني طويلة، ما الحيلة حسناتي قليلة، ما الحيلة وليس لي وسيلة.(2/278)