قال العالم: وراء ذلك المواصلة والمعاونة والمؤاساة والمؤاخاة في الله، والمحبة لأولياء الله تعالى، والبغضة لأعداء الله، وصلة الرحم، وبر الوالدين، ورحمة اليتيم، ومعاونة الضعيف، وتعليم الأولاد وتأديبهم، وإنصاف الزوجة فيما تسألك عنه وهي ناظرة إليك، والعناية في تعليمها، والأمر لها فيما لا بد لها منه، والنهي لها عما لا حاجة لها إليه، ولزومها لمنزلها، وطول الحجاب، وتصفيد الأبواب، وتعليم الحكمة والصواب، مع لزوم العفاف، والرضى بالكفاف، والصيانة لها عن التبرج في الفُرَج والأبواب، والتشرف إلى أهل الفحش والإرتياب، ومنع الداخلات إلى دار المسلمات، ممن لا يشاركهن في الدين والأحساب، فأولئك هاتكات الستور، ومبيحات كل محظور، والناقلات الكلام الزور، الجالبات للفحشاء والفجور، والمبغضات للنعمة، والمدخلات على المسلمات التهمة، والمفرقات للألفة، والداعيات للكشفة.
ولقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال : أحب إلي أن أجد في منزلي مائة لص يسرقونه أهون علي من أن أجد فيه عجوزاً لا أعرفها. ومن ذلك إنصاف الخادم فيما لا يقدر عليه، والنهي له عن مالا حاجة له فيه، والرفق به فيما لا يقدر عليه به، والنظر له فيما لا يدري، ( وصيانة الدآبة فيما تحتاج إليه، والرفق بها فيما لا تقدر عليه )، فهذا الأمر بالمعروف.
وأما النهي عن المنكر: فمن المنكر القول السيء، والقول بالفواحش، والكذب.
ومن الفعل: القتل، والربا، والزنا.
ومن النية: الرياء، والكبر، والحسد، والبغضاء، والشحناء، والفحشاء.
ومن الفعل: أخذ أموال الناس سراً وجهراً، ومن القول الغيبة، والنميمة، وشهادة الزور. فهذا من النهي عن المنكر.(2/269)


[مراتب العرفان]
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: تطيع الله الذي أسلمت له.
قال الوافد: وما هي الطاعة بيِّنها لي - يرحمك الله تعالى - حتى أعرفها وأعمل بها ؟
قال العالم: الطاعة اتباعك لما أمرك الله به، واجتنابك لما نهاك الله عنه، وذلك على وجهين: شيء قد علمته، وشيء لم تعلمه.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: اجتناب ما نهاك الله عنه، وهو على وجهين: شيء قد عرفته، وشيء لم تعرفه، فتعرف مالك وما عليك، فيما نهاك الله عنه، فعليك بما قد علمت به، التوبة والرجوع والإنابة والتضرع، ولك في ذلك المغفرة. فإنك إذا خفت ربك تبت إليه، وتعرف الخوف ما هو وكيف هو.
قال الوافد: ما هو يرحمك الله ؟
قال العالم: أما ما هو فمعرفة الذنب، وشهادة الرب. وأما كيف هو: فوجل القلب، ودمع العين. فإن لم تكن كذلك فلست بخائف فيما قد علمت. وأما الذي لم تعلمه فعليك منه الرهبة والتقوى، فإذا اتقيت الله لم يجدك حيث نهاك، وإذا خفته لم يفقدك حيث أمرك، فإن الله يراك، ويعلم سرك ونجواك، ويسمع كلامك، فهنالك ترهبه وتخافه حتى كأنك تراه.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: وراء ذلك التقوى.
قال الوافد: وما التقوى ؟
قال العالم: تحفظ لسانك وعينك ويدك ورجلك وفرجك وظنون قلبك، فلا تنظر بعينك إلى مالا يحل لك، فإن النظرة الواحدة تزرع في القلب الشهوة، وهي سهم من سهام إبليس، وتحفظ لسانك عن الكلام فيما لا يعنيك، فإن اللسان سَبُعٌ إذا أطلقته أكلك، وهلاكك في طرف لسانك، فلا تقل مالا يحل لك، ولا تمدد يدك إلى ما لا يحل لك، فإن لم تفعل فما اتقيت الله تعالى، وإن فعلت فقد اتقيت، ولك في ذلك المغفرة والرحمة وذلك قوله سبحانه: ? وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ? [طه: 82].
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟(2/270)


قال العالم: القيام بما أمرك الله به، حتى تعرف عملك، وتضع كل شيء منه في موضعه، وتعرف خطأه وصوابه، ويكون ذلك العمل تابعا للعلم مطابقاً له، ويكون فيه الرغبة واليقين والإخلاص والمحبة والحياء والإستقامة، وتعرف الرجاء ما هو، وكيف هو، ومن ترجو.
قال الوافد: بيِّن لي ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: هو أن يكون رجاؤك الله في كل أمورك، لدنياك وآخرتك، ولا يكون رجاؤك للخلق أكثر من رجائك للخالق، فتحبط عملك، ويبطل أجرك، فإن الله تعالى يقول وقوله الحق : ? فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ? [الكهف: 110]. فتقوم بما أمرك الله به ظاهراً وباطناً، فيصح ظاهرك وباطنك، فإن الظاهر الجلي، يدل على الباطن الخفي. ويكون قلبك متعلقا بذكرِ مَن ناصيتك بيده، ورزقك عليه، ورجاؤك له وشدتك وعافيتك وبلواك ومحياك ومماتك ودنياك وآخرتك، وترجوه للشدة كما ترجوه للرخاء، وترجوه للآخرة كما ترجوه للدنيا، وتخافه كما تخاف الفقر.
قال الوافد: فما وراء لك يرحمك الله ؟
قال العالم : الرغبة، تعرفها ما هي وكيف هي ؟
قال الوافد: بيِّنها لي يرحمك الله تعالى ؟
قال العالم: إن الرغبة في التطوع بعد الوفاء بما أمرك الله به، فإنك إذا رغبت ازددت إلى الخير خيراً، وإن لم ترغب لم تزدد وأنت متطوع ولست براغب. وأما كيف هي: فالتضرع عند الدعاء، فإنك إذا رغبت تضرعت، وإذا لم ترغب كان دعاؤك بلا رغبة، وذلك قوله عز وجل: ? ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ? [الأعراف: 55]. فمن خاف تضرع، ورحمه الله وأجابه.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: وراء ذلك اليقين.
قال الوافد: وما هو اليقين ؟
قال العالم: صاحب اليقين ذنبه لا يكتب، وتوبته لا تحجب.
قال الوافد: بيِّن لي ذلك ؟(2/271)


قال العالم: صاحب اليقين يعلم أن العلم متصل بالنية، فكلما خطر خاطر في قلبه، علم أن الله قد علمه فيلحقه الخوف، ويبادر بالتوبة قبل أن يعمل الذنب، فتوبته مقبولة، وذنبه غير مكتوب، وإنما يكتب ذنبه لو أصر عليه ولم يتب منه.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الإخلاص في الدين، وهو في القول والعمل والإعتقاد، قول خير، وعمل خير، واعتقاد خير، أما سمعت ما قال الله تعالى: ? ألا لله الدين الخالص ? [الزمر: 3].
قال الوافد: بيِّن لي ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: هو أن يعلم العبد أنه بين يدي الله عز وجل، يراه ويسمع كلامه، ويعلم ما في نفسه، فيجعله أمله، وتكون الطاعة عمله، ولا يغيب عن مشاهدته، ولا يزول إلى معاندته، زالت الدنيا من عينه، وتعلقت الآخرة في قلبه، فقيامه طاعة، وقوله نفاعة، وكلامه ذكر، وسكوته فكر، قد قطع قوله بعمله، وقطع أمله بأجله، وخرج من الشك إلى اليقين، فقلبه وجل، ودمعه عجل، وصوته ضعيف، وكلامه لطيف، وثقله خفيف، وحركته إحسان، وتقلبه إيمان، وسكوته أمان.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: حب الحق، وبغض الباطل، وحب من أطاع الله قريبا كان أو بعيداً، وبغض من عصى الله قريبا كان أو بعيداً، فإن حب الباطل يدخل النار، وحب من أحب الله قريبا كان أو بعيدا يدخل الجنة.
قال الوافد: كيف أحب من أطاع الله قريبا كان أو بعيدا ؟
قال العالم: يسوؤك ما يسوءه، ويضرك مايضره، ويسرك ما يسره، وتدخل السرور عليه، فإن كان أعلم منك تعلمت منه، وإن كنت أعلم منه فعلِّمه، وحفظته في محضره ومغيبه، وواسيته وأعنته، ورعيت صحبته، وجعلت ذلك لله وفي الله، ولا يكون في ذلك منٌّ ولا أذى.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الحياء من الله.
قال الوافد: بيِّنه لي ؟
قال العالم: ذلك على ثلاثة وجوه:(2/272)


أولهن: أن يعلم العبد أن طاعة الله عليه واجبة، وأن رزقه على الله، أفلا يستحيي العبد من الله أن يراه حريصا على رزقه، كسلانا عن طاعة ربه، يمن على قومٍ أجسادُهم معافاة، وعقولهم ثابتة، وقلوبهم آمنة، ونفوسهم طيبة، قد أحسن الله إليهم، فلا ينظرون إلى شيء من قدرة الله، ولا إلى نعمه عليهم فيشكرون، ولا إلى من كان من قبلهم فيعتبرون، ولا إلى ذنوبهم فيستغفرون، ولا إلى ما وعدهم الله في الآخرة فيحذرون، أفلا يستحيي من آمن بالله أن يراه الله مع أولئك مقيما، لا بثاً ساكنا ومؤانسا، حاضراً مجالساً.
وأما الثاني: فإن الله أعطى وقضى يعطي وهو راضٍ، أفلا يستحيي العبد أن يرضى برضى ربه عند عطاه، ولا يرضى برضاه عند القضاء، كما يرضى برضاه عند العطاء.
وأما الثالث: فإن الله يرضى لعبده الجنة، ويأمره بالعمل الصالح لما يصلح له من الخير، فيعمل العبد مالا يرضى الله له، ويكره ما يرضى الله له من الخير، ولا يترك المعاصي والشرور ولا يرضى برضى الله له، ويكون له ولد يحبه ويريد له الدنيا، وربما قبضه الله إليه وهو له ولي، أفلا يرضى العبد برضى الله كما رضي أولا بعطائه، وهو يعلم أن موت ولي الله خير له من حياته في هذه الدنيا الفانية، المحشوة هموماً وغموماً ونغصاً وغصصاً وآفاتاً وشروراً.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: وراء ذلك الإستقامة. أما سمعت قول الله عز وجل: ? إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم لا هم يحزنون ?[الأحقاف: 13].
قال الوافد: بيِّن لي ذلك يرحمك الله ؟(2/273)

140 / 201
ع
En
A+
A-