[صفات المؤمن]
واعلم يا بني أنك لن توقن حتى تعرف الموقنين، ولن تؤمن حتى تؤمن للمؤمنين، ومن الموقنين أبوك إبراهيم خليل الرحمن، والمؤمنون فمن أَمِنَ من الكفر وكبائر العصيان، وأعمال الموقنين من البر فدليل على إيقانهم، وترك المؤمنين للكفر وكبائر العصيان فحقيقة إيمانهم، فاسمع يا بني لخبر الله الذي لا خبر كخبره عن يقينهم، وما كانوا يعملون به لله في دينهم، من الصالحات، ويسارعون فيه من الخيرات، فإنه يقول سبحانه: ? إِنَّ الَّذِيْنَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ، وّالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ? [المؤمنون57-61].
ويقول سبحانه: ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ? [الأنفال 2-4].
ويقول عز وجل: ? إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ الذين آمَنوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرِ جَامِعٍ لَمْ يَذْهِبُوا حَتَّى يستأذنوه إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا اسْتَأْذِنُوكَ لِبَعْضِ شأْنِهِمْ فَأذَنْ لِمَنْ شئتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْم ? [النور:62].(1/66)
ويقول سبحانه: ? إِنِّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيْلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ? [الحجرات:15]. وقال عز من قائل: ? إِنَّمَا يؤمنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عِنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ? [السجدة 15-16].
أنظر كيف وصفهم الله سبحانه بالخشوع والدين، بما نسبه مما سكن قلوبهم من حقيقة اليقين، فأولئك هم الذين وصفهم الله بالايمان وحلاَّهم، وسمَّاهم به في كتابه ودعاهم، ولهم أوجب الجنان والرحمة، ومنه استحقوا الرضوان والعصمة، فمن خرج من صفتهم ونعتهم فغير مؤمن ولا نعمى عين، ولا مستوجب من الله الرحمة ولا الرضوان في يوم الدين، وداره غير دار المؤمنين، ومثواه من النار مثوى الظالمين.
وقد زعم غيرنا أن من لم يُؤمَن كَبيرُ عصيانه - فيكون لأحد منه أمان بإيمانه، ممن ذكر الله بالايمان وحلَّى - أنه ولي لله سبحانه فيمن تولى !! خلافاً على الله ومشآقة !! ومجانبة لكتاب الله ومفارقة.
وزعم أن الله لا يعذب من أقر به وبرسله وكتبه بلسانه، وإن ارتكب كل كبيرة من كبائر عصيانه، تمنِّياً على الله وافتراءًا، واستكباراً عن تبيانه واجتراءًا !!(1/67)
فاسمع يا بني لقول الله في خلافهم، وما وصف فيما زعموا من خلاف أو صافهم، فإنه يقول سبحانه: ? فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُّمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْماً ? [النساء:65]. فلم يرض سبحانه منهم له بالتحكيم، دون ما وصف من الرضى والتسليم، فقال سبحانه: ? فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ?. وقالوا هم: بلى خلافاً على الله هم مؤمنون!! والاقرار بالله ورسله، غير الرضى والتسليم لحكمه، فأَيُّ خلاف ـ لقائل أو اختلاف، أو فرط عن قول بغير حق أو إسراف ـ أَبيْنُ مما تسمع وترى، مما قالوه جرأة وافتراء .
ويقول سبحانه: ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِه وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الِّذِينَ يَسْتَأْذِنُوكَ أُولئِكَ الِّذِينَ يُؤْمِنُونَ باللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذنْ لِمَنْ شئتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ ? [النور:62]. واستئذانهم له، غير إقرارهم بالله وبرسوله، فأين ما قالوا في الايمان ووصفوا ؟! مما قال الله به إن أنصفوا !! والله يقول سبحانه: ? لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين، إنَّما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ? [التوبة 44-45]. فالله يقول: لا يؤمنون بالله إن استأذنوا !! وهم يقولون: بلى إن أقروا فقد آمنوا !!(1/68)
فأيُّ مجاهرة لله بخلاف، أو مقالة بغير حق في إسراف، أبْينُ على الله خلافا، أو في قولٍ بغير حق إسرافاً، من قول هذا مخرجه، وسبيلُ أهله في القول ومنهجُه ؟! أوَ ما سمعوا لقول الله تبارك وتعالى: ? يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ? [الأنفال:1]. يخبر سبحانه أنهم إن لم يطيعوا أمر رسوله ويقبلوه، ويفعلوا ما يأمرهم به أن يفعلوه، فليسوا مؤمنين به لا ولا بالله ربه، ولا برسل الله وكتبه.
أو ما سمعوا لقوله سبحانه: ? واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير ? [الأنفال:41]. يقول سبحانه لمن شهد من المهاجرين والأنصار بدرا، وكان له ولرسوله من عدوهما منتصرا، إن كنتم بما وَ صفتُ آمنتم، فامضوا لما به أمرتم، فان لم تمضوه على ما نزلت من حكمه، فلستم بمستحقين لثواب الايمان ولا اسمه.
فأي حجة لمحتج أقوى، أو ضياءُ نورٍ أضوأ، فيما اختلفنا، ووصفوا وصفنا، مما تلونا جُمَلاً لا تأويلا، ووحيا أنزله الله تنزيلا.
فاسمع في ذلك يا بني عن الله تنزيلَ وحيِه، وما نَزَّل فيه صراحاً مكشوفا على نبيه، فإنه يقول: ? وما أولئك بالمؤمنين ? [النور:47]. فالله تبارك وتعالى يقول وما أولئك بالمؤمنين، وهم يقولون بلى إذا كانوا بالله وبما جاء من عنده مُقرِّين !! وإنما أخرجهم الله من الايمان بتولِّيهم، وبذلك نزل وحيه فيهم، وعليه عاتبهم لا على إنكار، ألا ترى أن قولهم آمنا قولُ إقرار، لم يدعهم إليه، ولم يعاتبهم فيه.(1/69)
[اعرف الحق تعرف أهله]
فاعرف الحق يا بني ومن خالفه، فإنك تعرف حينئذ الحق ومن آلفه، واعلم أن معرفة الحق قسمان معلومان، وجزآن عند المحقين مقسومان:
أحدهما: معرفة الحق في نفسه ونعته، وما أبانه الله به من ضياء بينته.
والآخر: معرفة ما خالفه من الباطل، والبرآءة إلى الله من جهل كل جاهل، فاعرفهما جميعا تعرف الحق وتوقنه، وتعرف قبحَ كل أمر كان أو يكون وحسنَه، ولا تغتر بهما جاهلا، ولاتكن لواحد منهما معطلا، فَتَجْهَلَ بعض الحق أو تعطله، ولا يُؤمَن أن ترتكب بعض الباطل أو تَفْعَلَه، ومتى لا تعرف الباطل لا تتبرأ من أهله، ومن لا يتبرأ من المبطل حلَّ من السخط في محله، ومتى تجهل بعض الحق، لا تُؤمن من البرآءة من المحقِّ، ومن تبرأ من المحقين تبرأ الله منه، ومن أعرض عنه المحقون - سَخَطاً - أعرض الله عنه، والمحقون مِن خلق الله فهم المؤمنون، والمؤمنون فهم البررة الرحماء المتحآبُّون، والمتحآبون فهم المحبون في الله لمن أحبهم وتولاهم، والمعاندون لمن حآد الله ربهم ومولاهم.(1/70)