[مكنون الحكمة]
فقال الوافد: أيها العالم الحكيم الناطق، والبر الشفيق الصادق، انشر علي من مكنون حكمتك علماً، وزدني من نوادر معرفتك ما أزداد به فهما، فلعل الرَّين الذي على قلبي أن يخلص ببركتك، وينجلي عني بجود صحبتك.
قال العالم: جُرَّ لك الصلاح، ووُفِّق لك الفلاح، ويُسِّر لك النجاح، وعليك بستة أشياء فالزمها واعمل بها، واحرص فيها وحافظ عليها.(2/264)
[معرفة الله]
قال الوافد: وما هي بيِّنها لي يرحمك الله ؟
قال العالم: أولها المعرفة بالمعروف فهو الله عز وجل، والإيمان به، والإسلام، والطاعة، والعلم، والعمل. ثم تعرف المعرفة ما هي إذا صرت عارفا، رددت المعرفة إلى المعرفة فلحقت من المعرفة ما قدرت عليه. ثم تعرف الإيمان ما هو وكيف هو ؟ حتى إذا صرت مؤمنا أسلمت للذي آمنت به، حتى إذا صرت مسلما احتجت أن تطيع للذي أسلمت له، حتى إذا صرت مطيعا احتجت إلى علم تطيع به، وتعرف العلم ما هو وكيف هو، حتى إذا صرت عالما احتجت أن تعمل بما علمت، ثم تعرف العمل ما هو وكيف هو وما ثمرته، وإلى ما يوصلك وما عائدة نفعه.
قال الوافد: أيها العالم بيِّن لي المعرفة ما هي وكيف هي ؟
قال العالم: أما ما هي فإصابة الأشياء بأعيانها، ووضعها في مواضعها، ومعرفتها على حقائقها، وأما كيف هي فإصابة المعاني، فما من شيء إلا له معنى يرجع إليه، فإصابة الأشياء بالنظر والتفكر والتمييز والسمع والبصر، وإصابة المعاني بالتفكر والإعتبار والعقل.
قال الوافد: فما معرفة الله تعالى ؟(2/265)
قال العالم: هو أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى واحد أحد فرد صمد، لا تدركه الأبصار ولا يحويه مكان، ولا يحيط به علم، ولا يتوهمه جَنان، و لا يحويه الفوق ولا التحت، ولا الخلف ولا الأمام، ولا اليمين ولا الشمال، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لا يعلم كيف هو إلا هو. فتعرفه بهذه المعرفة، فما توهمه قلبك فربك بخلافه عز وجل، وذلك قوله في محكم كتابه العزيز لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم :?قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا? [الإخلاص:1 – 4]. فتقول كما أُمرت، وتعمل كما قلت، وتشهد بما علمت، وتعمل كما شهدت، أن الله الواحد القهار الملك الجبار المحيي المميت الحي الذي لا يموت، خالق كل شيء ( ومالك كل شيء، الكائن قبل كل شيء، الباقي بعد فناء كل شيء، ? ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى: 11] ). وهو على كل شيء قدير، فهذه معرفة الله تعالى بالذكر.
وأما المعرفة بالتفكر والنظر بالقلوب، والتمييز بالألباب، فهي في عظيم قدرة الله تعالى وارتفاعه، وعلوه وبقائه، ونفاذ أمره، وبيان حكمته، وإحاطة علمه، وكثرة خلقه، وسعة رزقه، وقرب رحمته، وجُود كرمه، وكريم تطوله، وبيان حكمه، وحسن رأفته، وجميل ستره، وطيب عافيته، فلله الحمد على ذلك كثيرا.(2/266)
[الإيمان]
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الإيمان بالله والإقرار به، وبما جاءت به الرسل من عند الله تعالى، وتؤمن جوارحك حتى لا تستعملها في شيء مما يكرهه منك خالقها، فتكون قد أمنتها من عذاب النار. ومن الإيمان أن يأمن الناس من يدك ولسانك وظنون قلبك، فإذا فعلت ذلك فأنت مؤمن. ومن الإيمان الرضى بالقضاء، والشكر على العطاء، والصبر على البلاء. ومن الإيمان المحافظة على الفرائض والسنن، والقيام بالنوافل والفضائل.
ومن الإيمان تعلم أن الله حق، وقوله حق، والجنة حق، والنار حق، والبعث حق، والثواب حق، والحشر حق، والقيامة حق، والعرض حق، والحساب حق، وأن الله على كل شيء قدير، وأنك منتقل من هذه الدار الفانية إلى الآخرة الباقية . مسئول عن أعمالك، موقوف على فعالك وأقوالك، وإقلالك وإكثارك، وإعلانك وإسرارك، فتجد ما فعلت قد أحضر إليك . وأنت اليوم في دار المهلة، ومكان الفسحة، فلا تذهب أيامك سدى، واعمل فيها بطاعة ربك، وعلق قلبك في ملكوت إلهك، واجعل دليلك القرآن، و قرينك الأحزان، وفعلك الإحسان، وطعامك الفكر، وحديثك الذكر، وحليتك الصبر، وقرينك الفكر، وهمك الحساب، وسعيك الثواب، وجليسك الكتاب، وأملك الرجاء، وسريرتك الوفاء، وسيرتك الحياء، وفاقتك الرحمة، وعملك الطاعة، وطلبك النجاة، وسؤالك المغفرة، وسبيلك الرضى، وخوفك العقاب، ورغبتك الثواب، وخُلُقك العفاف، وعزيمتك الكفاف، فمن سلك هذه الطريق سبق، ومن تكلم بمثل هذه صدق، وهي عروة فمن تعلق بها استوثق، والحمد لله رب العالمين.(2/267)
[الإسلام]
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟
قال العالم: الإسلام، وهو أن تسلم للذي آمنت به. ومن الإسلام أن تسلم كليتك إلى أعمال الطاعات، فإذا بلغت ذلك سلمت من العقاب، وسلم الخلق منك، ويكون إسلامك بالظاهر والباطن، حتى لا يخالف قولك فعلك ولا فعلك يخالف قولك، فيكون ظاهرك باطنك، وباطنك ظاهرك، وتكون موقنا بالوحدانية، مقراً بالربوبية، معترفا بالعبودية، مجللا بالعظمة، هائبا للجلالة، فرحا بالمكروه، محبا للطاعة، طالبا للرضى، خائفا للبعث، راغبا في الجزاء، راهباً للعذاب، مؤديا للشكر، مداوما على الذكر، معتصما بالصبر، عاملا بالفكر، فهذا عمل الباطن.
وأما عمل الظاهر: فالإجتهاد في أداء الفرائض والسنن والفضائل والنوافل، منها الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقراءة القرآن.
ومن السنن الختان، وصلاة العيدين، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، ونتف الإبطين، وقص الشارب، والسواك.
ومن الفضائل صيام رجب، وشعبان، والأيام البيض، ويوم عاشوراء، ويوم عرفة والإثنين والخميس.
قال الوافد: فما وراء ذلك يرحمك الله ؟(2/268)