[النفس]
فقال العالم: كم رسوم المعرفة ؟
قال الوافد: تعرف نفسك، وتعرف ربك، وتعرف دينك، وتعرف دنياك، وتعرف آخرتك، فإذا عرفت ذلك فلا حاجة لك إلى غيرك.
قال العالم : كيف تعرف نفسك ؟
فقال الوافد : أعرف حدثها، وأعرف ضعفها، وأعرف فاقتها، وأعرف عجزها، فأجهدها في طاعة ربها، وأحملها على الخوف لخالقها، كي أرى خوفها، واحتمال الأذى، وأروضها وأحثها على الطلب لما فيه نجاتها، وأصرفها من الكذب إلى الصدق، ومن الطمع إلى الورع، ومن الشك إلى اليقين، ومن الشرك إلى الإخلاص، وأخرجها من محبوبها في الدنيا، وأريضها في السفر حتى تنال كرامة الله تعالى في الآخرة.(2/254)
[معرفة الله]
قال العالم: وكيف تعرف ربك ؟
قال الوافد: أعرفه بما عرَّف به نفسه من الوحدانية، ولا أشبهه بشيء من البرية، لا يحد بالحدود، ولا يوصف بالصفات، إذ هو سبحانه وتعالى خالق كل صفة وموصوف.(2/255)
[الدين]
قال العالم: وكيف تعرف دينك ؟
قال: الوافد أعرفه بالشريعة التي سنها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وصدَّقها المحكم من التنزيل، وشهدت لها قرائن العقول. وهي على ثلاثة وجوه: قول وعمل واعتقاد، وسبيلها واضح، وطالبها رابح، قد بهر دليلها، وشهد لها بالصدق من ذوي العلم عقولها، فقد كفونا مؤنة الطلب بهذا الإحتجاج، وقطعوا عنا علائق الإعوجاج، حتى ما بقي في ذلك شك ولا اختلاج. فقصدت عند ذلك بينة صحيحة حتى عرفت الأصل والفرع، وبحثت بغائصِ عقلي، فوجدت ذلك واضحاً مبيَّنا، وفي كتبهم مشروحاً معيَّناً، كلاما مبرهنا، قد حملوا صلوات الله عليهم عبء ذلك وثقله، وأوضحوا فرع ذلك وأصله، حافظين فيه الأمانة، مجتنبين الغش والخيانة، قد شيدوا بنيانه، وعظموا سلطانه، وأثبتوا في العقول برهانه، فليس لأحد من بعدهم مطلب، ولا لمسترشد من دونهم مذهب، ولا عاقلٌ في غير مذهبهم يرغب.(2/256)
[الدنيا]
قال العالم : فيكف عرفت دنياك ؟
قال الوافد: عرفت فناها وتقلُّبَها، وغدرها وخدائعها فحذرتها، ونظرت وميزت، فإذا الدنيا تغر طالبها، وتقتل صاحبها، تفرق ما جمع، وتغير ما صنع، فعرفت أنها تفعل بي مثل ما فعلت بالأولين.(2/257)
[الآخرة]
قال [العالم]: فكيف عرفت آخرتك ؟
قال الوافد: عرفت أنها دار باقية فيها الحساب والعقاب، والمجازاة والثواب، يبلغ أمدها، ويطول أبدها، فريق في الجنة وفريق في السعير، فمن كان في أصحاب الجنة فشآبٌ لا يكبر، وغني لا يفتقر، وقادر لا يعجز، وعزيز لا يذل، وحي لا يموت، في دار قرار ونعيم مقيم، وسرور وقصور، وأبكار راضية، وقطوف دانية، وأنهار جارية، ومُلك لا تحد سعته، ونعيم لا تحصى صفته. ومن كان من أهل النار فحمل ثقيل، ومقام طويل، وبكاء وعويل، وخشوع ضفيف، وقلب حفيف، في دار جهد وبلية، وغم ورزية، وضيق لا يتسع، وعذاب لا ينقطع، حيث السلاسل والأغلال، والقيود والأكبال، والضرب والنكال، والصياح والأعوال، وأكل الزقوم، وشراب الحميم، ولفحات السموم، وظهور المكتوم، ولباس القطران، وزفرات النيران، والخزي والهوان، داخلها محسور، وواردها مضرور، وساكنها مدحور، وصاحبها مقهور، واللابث فيها مهجور.(2/258)