[التوبة]
ومن عثر في هذه السبيل بعد سلوكه لها فلا يقطع من الله رجاه، ولا ييأس مما أعد الله لكل من أخطأ خَطَاه، من رحمته التي وهب منها أفضل الموهبة، وجعلها للخاطئين عند الخطيئة في قبول التوبة، فإن الله تبارك وتعالى لم يقم للتائبين منهاجاً، ولم يجعل لكل نفسٍ تائبة إليه من العقوبة إخراجاً، إلا لما أحب من بسط العفو والمغفرة، وتعريف مكان حلمه بالعفو بعد المقدرة، فإن أنتم زللتم عن طاعته، فلا تزولوا عن طلب عفوه ومغفرته، فإنه يبلغكم بسعيكم في طلب عفوه، منازل الساعين في طلب ثوابه، وكما أن الله تفضّل من ثوابه بأكثر من عمل العاملين، فكذلك تفضل بالعفو على من أناب إليه من الخاطئين، وكما أن طالب الضالة محبٌّ لوجودها وأدائها، والطبيب محبٌ لإبراء المرضى إذا عالجها من أدوائها، فكذلك الله تبارك وتعالى يحب توبة من دعاه إلى الإنابة من المذنبين، ولذلك مدح سبحانه إنابة من أناب إليه من المنيبين.(2/244)


[حذر النفس والهوى]
واعلموا أن من سقط في البحر، وألقى بيده في لجج الغَمر،، ولم يتحرك في طلب الحياة، لم يُطمَع له يقيناً بتَّاً بنجاة. ومَن وطَّن نفسه على الهلكة، يئس من أن يدركه الله بنجاته المدرِكة، ومن يئس من الأسباب المنجية، لم يتب من قبيح سيئةٍ، ومن يَحسُن ظنه بربه، لا يعدم حسن الجزاء في ظنه به، ومن يسوء ظنه بالله وفيه، فلا يعرف إحسانه إليه، ولا يستوجب منه ثواباً، ولا يأمن له - إن عقل - عقاباً، وثواب الله على حسنِ ظنٍّ مِنْ عبدِه به، عوضٌ من جزائه له على حسن عمله.
فالحذر الحذر فإن المنفعة في الحذر عظيمة، والاستعانة بمعرفتها حصن وغنيمة، فاستعينوا بالحذر والتيقُّظ عن الغفلة، وما ليس بمأمونٍ أن يعارضكم من الملالة.
واعلموا أن الأنفس تؤثر حب الخفضوالراحات، وكل ما كان لها فيه من عاجل سرور وفرحات، بغلبة غالبة لها عليها، وصغوِّ مصغٍ شديد إليها، فإن أهملتم أنفسكم أغارت غارة السبع في شهواتها، وملكتها الغفلة فخالفتكم في أكثر حالاتها، وإن انتبهتم وحذرتم، قويتم على بلوغ ما طلبتم، وإن وَنَيتم وقصرتم، وعميتم عما بُصِّرتم، غلبت عليكم غوالب الحيرة والهوى، وأسلمكم الله إلى ما آثرتم عليه من غير التقوى، ألم تسمعوا لقول الله تعالى، فيمن غلب عليه العمى، وجانب سبيل الهدى :? أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله على علمٍ، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ?[الجاثية: 23]. فلما اتبعوا أهواءهم أعماهم، ولما آثروا تقواهم هداهم، ألم يسمعوا قول الله تبارك وتعالى، :? أولئك الذين طبع الله على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم، والذين اهتدوا زادهم هدى، وآتاهم تقواهم ? [محمد: 16- 17].
فليكن حذر الهوى من شأنكم الأكبر، والهرب بالجدِ من حظكم الأوفر.(2/245)


فإنه بلغني أن بعض الصالحين كان يقول: النار تلحق ذا الخطو البطيء، وحديقة العاجز لا تعرى عن الشوك والحلافي، فكذلك قلوب أهل التقوى إن غلب عليها الوناء والعجز والغفلة، غلب عليها الخطأ والفساد وهي عنه ذاهلة.
فلا تتكلوا على ما سلف من أعمالكم، فتضيعوا فيما تستأنفون من بقية آجالكم، واجعلوا على فكركم من عقولكم رقيباً، كيلا تجول بكم فيما جعله الله ذنباً، وكذلك فاجعلوا على ألسنتكم لكيلا تنطق بما يسخطه، وعلى أسماعكم وأبصاركم لكي تفرغ لما يحبه، وزنوا ـ فيما بينكم وبين الله ـ جميع أموركم، وارفضوا الفضول فيها من فعلكم وقولكم، واقتصروا على بغيتكم تستريحوا، وتَفَرَّغوا لها تنجوا به وتفلحوا.(2/246)


[الاخلاص]
واعلموا أن الزَّراع الحكيم لا يثق في نفسه بسلامة ما بذر من زرعه فيه، حتى يستودعه الخزائن فتؤيه، فلا تثقوا بعملكم قبل الورود عليه.
واعلموا أن ما يعرض من الآفات، ويدخل على أهله من الغفلات، في طلب الآخرة أكثر منها في طلب الدنيا، وذلك لفتن الشيطان بحب المدح والرياء، واستشعار الكبر والخيلاء، وغير ذلك من معاريض مكره وكيده، وما يقاسَى فيه من الاخلاص وشدائده، فإن لم تَحْتَرِسُوا منها، وتحتجبوا بالله عنها، عارضتكم فيها الهلكة والتلف، ثم لم يكن في أيديكم إلا الحسرة والأسف.
فعليكم بقراءة الكتب الدَّآلة على حِكَمِ الله وعجائب قدرته، ولا تقرأوا ما قرأتموه منها للتزين في أعين الناس بقراءته، وانفوا عنكم تثاقل التلهية، بذكاء الفكر والنية، وإذا أُعطيتم فاشكروا، وإن فرحتم فاذكروا، وإن ابتليتم فاصبروا.
واعلموا أن الصلوات، ليست بطرب الأصوات، ولكنها بالباطن الظاهر، والفكر المنير الزاهر، والنية الصادقة، والضمائر المحققة، فاستعملوا ضمائركم بصحيح الاستعمال، ولا تميلوا إلى ظاهر المُراءاة باللسان، تكن أعمالكم مطيبة زاكية، وضمائركم لله خالصة نقية، ولن يكون الانسان في فعله خلصانياً، ولا فيما تتوق إليه نفسه من ولاية الله ولياً، إلا بإخلاصه لصلاته وصيامه، ومحافظته على ما حكم الله به عليه من أحكامه، فأطيعوا الله ما استطعتم، وأخلصوا له الطاعة إذا أطعتم، واصرفوا قلوبكم إلى تقوى الله، تكونوا من السابقين دون غيركم إلى تعظيم الله، فقد نبهكم الله لها فأيقظكم، وأمركم بما تعملون منها فوعظكم. فالعجل العجل والحذر الحذر! والنجا النجا! والوحاء الوحاء! فقد حدانا الرسول على رفض الدنيا وأجهر، وحرَّك إلى قبول أمر الله فيها فاستنفر، كل نفس سوية مفكرة، ذات عين صحيحة جلية مبصرة، فما لأحد من عذر ولا علة، في وناءٍ ولا تقصير ولا غفلة.(2/247)


فهل من مستجيب لله في ذلك مدَّكر ؟! وهل من رائح إلى الله أو مبتكر ؟! منيب إلى الله مستسلم، ومتعلق بحبل الله معتصم، فقد أرانا الله من معائب الدنيا ومساويها ما أراه، ففاز مَن بادر إلى الله في الإجابة برفضها إذ دعاه، فوجل من الله وأشفق، وسارع إلى الله فسبق، ولم يأخذ منها إلا ما طاب لله وزكا، ولم يختر على ما جعل الله من الحياة فيها سخطاً من الله وهلكاً، ولم يَغترِر بما أمده الله به من ماله وبنيه، وبما ظَاَهرَهُ الله من آلائه ونعمه إليه، فإنه يقول سبحانه:? أيحسبون أنما نمدهم به من مالٍ وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون، إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، ولا نكلف نفساً إلا وسعها، ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ?[المؤمنون: 55 - 62]. ويقول سبحانه :? وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم، وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ?[المؤمنون: 73 ـ 74]. ويقول سبحانه :? وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، أن تقول نفسٌ يا حسرتا على ما فطرت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ?[الزمر: 54 ـ 60]. ويقول سبحانه :? استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذٍ وما لكم من نكير ?[الشورى: 47]، فكفى بتذكير الله عز وجل وأمره فيما ذكَّرنا به وأمرنا من كل أمرٍ وتذكير، فأسعدكم الله بقبول تذكيره، وأيدكم في ذلك بتوفيقه وتبصيره، وبلَّغكم الله برحمته صالح أعمالكم،(2/248)

135 / 201
ع
En
A+
A-