واعلموا أنكم إذا رفضتم غرور زينة الدنيا، فكأنكم بقلوبكم في السماوات العلى، فاجعلوا القيامة لكم غرضاً ترمونه بصالح الأعمال، ولا تقتدوا في ذلك بمنتهى سبيل الأخيار فتكونوا بعرض ملال، يحط من كبار الأعمال إلى صغارها، ومن تفضيلها إلى احتقارها، ولكن تناولوا طرفاً من الصيام، وطرفاً في الليل من القيام، وتفهَّموا ما تتلون فيه من أجزاء القرآن، وسبحوا لله واذكروه في آناء الليل وأطراف النهار، فإنه يقول سبحانه :? اذكروا الله ذكراً كثيراً، وسبحوه بكرةً وأصيلا ?[الأحزاب: 41 ـ 42]. ويقول سبحانه:? يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً ?[المزمل: 1 ـ 4]. ويقول سبحانه :? ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا ?[الإسراء: 79].(2/239)


[جوهر الدين]
واعلموا أن شهوة الشراب والطعام، والنوم عن التهجد والقيام، أوقع سروراً للنفس، وأدعا لما في طبائع الأنفس، من الظمأ والصيام، ومن التهجد والقيام، ولن يملك امرؤ ضبط نفسه وفكرته، ويقوى على ما يفوز به في آخرته، حتى يقوى على ترك شهوته، ويؤثر محبة الله على محبته، وكما لا يضبط صعاب الخيل إلا بثقيل اللُّجم، فكذلك لا يقوى على النفس إلا بمنعها من كثير من شهواتها في المشرب والمطعم.
وإذا صمتم فليكن مع صيامكم من المطعم والمشرب، صيام عن التكبر والعجب، فإنهما ينتجان الفتنة ويوقدان نار الغضب، واجعلوا أفكاركم، وصفاء أذهانكم، في الله ومحل أوليائه، وفي التماس منازل أحبائه، ولا يُنال ذلك إلا بكلفة متكلفة، يتقدمها متقدَّمُ معرفة.
واعلموا أنه لن يعرفها أحد حق معرفتها، إلا خف عليه ما يستثقله الجاهلون من كلفتها، فلا تطلبوا التقوى طلب الجاهل بطلبته، المُغترِّ بسوء التقدير عن نيل بغيبته، جهلاً بما بينه وبينها، وما جعل له من العلاج دونها، فيقل صبركم، ويعسر عليكم فيها أمركم. ولكن اعرفوا منها ما قصدتم له، وسلكتم إلى الله عز وجل فيها سبيله، فإن غلبت عليكم الغفلة فيها، أو فترتم بخطيئة عن النهوض إليها، فهيجوا قلوبكم عليها، وادعوا أنفسكم إليها، بأصوات الأحزان، والبكاء إما بأنفسكم وإما بغيركم من القرآن، فإن القرآن نور وعبرة لمن اعتبر، والبكاء والأحزان تذكرة لمن تذكَّر.
فإن تعسر عليكم في مطالبكم من التقوى مطلب، أو ضاق عليكم من مذاهبكم مذهبٌ، فخذوا في غيره مما يقربكم، ويتسع لكم به من مذهبكم، ولا تطلبوا الله في كثرة الركوع والسجود، دون تحقيق الإخلاص لله من قلوبكم باعتماد قصدٍ من ضمائرها معمود، فإنما يراد بذلك كله وفيه، الوصول بتعظيم الله إليه.(2/240)


وألطفوا نفي الهمّ عنكم، وقطع أسباب الغم دونكم، فإنهما يفسدان الأعمال، ويورثان الملال، ويفلان عزائم الجد، ويشغلان عن سلوك القصد، وإن عرض في نفوسكم، أو خطر بقلوبكم، بعض خواطر النفس الدواعي إلى غير البر والتقوى فاحذروا أن يغلب عليكم فيه، ما يوعِّر عليكم سبيل ما قصدتم إليه، وانفوا ما عرض لكم من ذلك كله من أمر الله بما ينفيه، ففي ذلك ولا قوة إلا بالله ما تقوون عليه، وانفوا الهمّ عنكم فيه برجاء الفرج وتأميله، وبما رأيتم من تغيير أمر الدنيا وتبديله.
واعلموا أن الفرَج والسهل بعد الهم والوعر، والراحة واليسر بعد النصب والعسر، كما قال الله تبارك وتعالى:? فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسرا?[الانشراح: 5 ـ 6]. وقال الرسول عليه السلام، فيما قد نقلته العوام: (اشتدي أزمة تنفرجي). واستعدوا الصمت عمَّا لا يعنيكم، فإن ذلك إذا غلب عليكم، جلا عنكم بإذن الله ما في قلوبكم من العمى، وإن عين القلب لا تبصر إلا في الضياء وبعد الجلى، وجلاء القلب صمته عما لا يعنيه، ونظره فيما له من الله وعليه، والمرآة ذات الصدى، لا تُرِي إلا بعد أن تُجلى، وكذلك فلن يصل أحد إلى أن يخلص حبا لله وارتضائه، والسرور بما أعد في دار البقاء لأوليائه، والعجب بما أراه الله من عظمته، إلا بعد الجلاء للقلب من درن خطيئته، ولا يقتصر أحد في سلوك هذه السبيل على ترك الطعام، وإدمان قراءة القرآن، دون أن يخلط ذلك بالنظر إلى ما عند الله بقلبه، ويتفهم في ما يقرأ كل ما أمر الله به، فإنه لا غنم لمن جعل ما هو فيه من صيامه، ليس إلا تركه لما ترك من طعامه، ولا من جعل قراءته بالتلاوة شغلاً، ومِن فهمه لما فيه عن الله بدلاً.
واصحبوا الراسخين في العلم، فإن فيهم عصمة لمعصتم، واقتفوا وفقكم الله صلاح آثارهم، وانفوا الوحشة عنكم بصحبتهم واختيارهم.(2/241)


ومن سلك هذه السبيل المكرمة الخالصة، فعارضه فيها من الوساوس المغوية، ما يوعر عليه سبيلاً، أو يدخل قلبه من فترة دخيلاً، فليذكر أنه في مسلك سبيل أولياء الله الذين اصطفى، وأنهم باحتمال ما هم فيه من المؤنة استحقوا عند الله المنزلة والزلفى، وبها وصلوا إلى ثواب الله الأكرم، ومحل أوليائه الأعظم.(2/242)


[مثل طالب الدنيا وطالب الآخرة]
ثم ليقس نفسه فيه، وفيما يرجو من جزاء الله عليه، بمن يغوص في لُجِّ البحر، لابتغاء الدر، وهو يوغل في حفر المعادن لابتغاء الذهب، ويسير له في آفاق الأرض بجهد الطلب، وينصب نفسه لمقاساة المُلك الزائل، ويقاتل عليه وفيه كل بطل منازل . ومن يطلب مالا يفنى ويزول، ولا يغيّره مغيِّر من البلاء فيحول، من الملك الباقي السرمدي، والنيل الدائم الأبدي، أيهما أولى بالصبر على التعب، والاجتهاد بصدق الطلب، فقد يعلم أنه لا أحد أخسر في صفقته، ولا أفحش في الحمق من حمقته، ممن اعتاض زائلاً بمقيم، وبؤساً ـ إن كان عاجلاً ـ بنعيم، فأشعِروا أنفسكم هذا وذكره، يسهل عليكم ما وعَّرتِ الوساوس أمره.
وإن عرض لكم سوء تفكير، وشنع عليكم حالاً من حال الخير، يشغل بوسواسه ضمائر قلوبكم، فميزوا بين ذلك وبين ما عرض بصحيح عقولكم، ولا ترضوا من أنفسكم فيه بغير صحيح أموركم، فإن أَخونَ الناس لنفسه، وأجهلهم بيومه وأمسه، من رضي بتشبيه العلانية، وأنكر صدق السريرة الباطنة.
واعلموا أنكم إن رضيتم، أو خضعتم في ذلك وأغضيتم، فَتَنَكُم فيه عدوكم، وسبى بغروره فيه عقولكم، فاعتصموا بالله عن سبياته، واستدفعوه لا شريك له لبلياته، فإنه عز وجل غاية الاعتصام، واقْصِدُوا قَصدَ ما برزتم له بالتمام، فإن كل من نكَل عن بغيته، بعد أن أنصب نفسه في طلبته، أسوأ في ذلك حالاً، ممن لم ينصب فيها اشتغالاً.
واذكروا ما وُعدتم من النعيم الدائم المقيم، وما أوجب الله لمن لم يجب دعاءه من العذاب الهائل الأليم، ثم اسألوا الله فيما اعتصمتم به بنفي غمكم، واكتفوا بمعونة الله فيه يقلُّ همكم.(2/243)

134 / 201
ع
En
A+
A-