واعلموا أن القلوب كالآنية المصدوعة، فيما تنازع إليه من غرائزها المطبوعة، فإن لم يُرهم مصدوعها، لم يصح مطبوعها، على بنية اعتداله، فيما فطرها الله عليه من كماله، فزُمُّوها بالعلم بكتاب الله وتنزيله، والوقوف على محكم تأويله، ففي ذلك لها تقويم وتعديل، وهداية ونور ودليل، على منهاج خالص الطريق المسايرلها في حب الله وطاعته، وما أوجب الله على العباد من أثرته وعبادته، وبكتاب الله يتجلى عن القلوب ظُلَمُ الحيرة، وبلطيف النظر فيه يُدرِك حقائقَ العلم أهل البصيرة، وبسبل الله فيه المطَّرِقَة، تكون هدايات المتقين في الثقة، من نيل الغايات القصوى، وبلوغ الدرجات العلى.
وقد زعم بعض أهل الحيرة والنقص، ومن لا يعرف عين النجاة والتخلص، أن الإلطاف في النظر، يدعو صاحبه إلى الخيلاء والبطر، وإنما يكون ذلك كذلك عند من يريده للترؤس، لا لما فيه وما جعله الله عليه من حياة الأنفس، فانفوا مثل هذا عن ضمائركم، وسدوا ثلمة عيبه في سرائركم.
واعلموا أن البحر لا يجاز يقيناً بتَّا إلا بمعبرَ، وأنه يحتاج الشجاع المحارب السلاح في الحرب فكيف بالعيِّ المغتر، فلا يتعاط أحد سبيل التقوى، وما قرن الله بها من التمحيص والبلوى، إلا وقد تحصّن بالعلم والبصر والنظر، الذي ميز الله به بين أهل الخير والشر، فلا تَدَعُوا - رحمكم الله - حسنَ النظر في الأمور، والاستضاءة في ظلمها بما جعل الله في العلم من النور.(2/234)


واعلموا أن من أبواب ذلك ومفاتيحه، وأضوأ ضياء نوره ومصابيحه، إخلاصُ العمل لله، وصدقُ التوكل على الله، وسبب الطريق إليها، وعون من أراد مما فيها، (حسن الفكر في الدنيا وفنائها، وتقلب سرآئها وضرآئها، وفي حال جميع مَن فيها من ملوك الأمم خاصة، ومَن دونهم من الخلق جميعاً عامة، فإنكم إن تفكرتم فتروا، بعين الفكر وتبصروا، أنهم جميعاً منها وإن اختلفت حالهم [في السراء والضراء، في مضامير بأقدار أحوالهم] فيها من السعادة والشقاء)، فقد غشيهم من همومها كأمثال الجبال، ورمت بهم من غمومها في مثل لجج البحار، فالملك في شُغلٍ من ملكه، والمملوك في سطوة مالكه، والمكثر من إكثاره، والمُقلُّ من إقلاله.(2/235)


[أحوال الخلق في الدنيا]
ولن يحاط بوصف أحزانها، وأوجاع غموم سكانها، ويَحِق بذلك منزل سريع زواله، قليل ما تمتع بالراحة فيه نُزَّاله، بأْسآؤه أبداً فيه متداركه، ونجاة أهله فيه مهلكة، وغمومهم فيه متراكبة، وهمومهم به مكتسبة، فلا الغني يخلو من غم الجمع وكدّه، ولا الفقير ينجو من الكد فيه بجهده، يسعى الغني فيه خوفاً من العدم، ويكد الفقير طلباً للمغنم، فجدة الغني فيه فقر، ومغنم الفقير منه خسر، يخاطرون لذلك في أهوال البحور، ويركبون لطلبه كل باب من أبواب الفجور، فأقرب ما يكونون من السرور به، أقرب ما يكونون من الغم بسلبه.
فكم في الدنيا من غريق في لجج البحار ؟! وكم فيها ولها من مبتلى بقتل أو أسارٍ ؟! وكم لطالبها، وإفراطه في حبها، من ميتٍ غريب نآءٍ عن الولد والأوطان، بين غُتم لا يعرفونه، وطماطم من السودان ينكرونه، لم يبكه هنالك ولده ولا قرباه، ولم تأسف عليه كما أسف عليها دنياه، بل تخلَّوا جميعاً منه، وأعرضوا سريعاً عنه، فَوَرِثُوْهُ غَير حامدين له فيما جمع، وأسلموه إذ مات لما عمل وصنع، ولعل قائلاً منهم أن يقول: ما كان أفحش حرصه وإيعاثه، أو قائلاً منهم يقول: ما أقل أو ما أكثر تراثه، تلعُباً بذكره، وتفكهاً في أمره.(2/236)


فأعرضوا هذا - رحمكم الله - على قلوبكم لأن ينجلي لكم إن شاء الله ما فيها عن الدنيا من العمى، وانظروا إلى من زالت عنه القدرة من أبناء الملوك والعظماء، كيف صاروا إلى الضعة بعد الرفعة، والضيق بعد مضطربهم من السعة، بل انظروا بعد هذا كله، إلى من كان هذا أكثر شغله، ألم تروا غلطهم في مسالكهم، ومرتطمهم في مهالكهم، فاعتبروا بهم قبل أن تغرقوا في بحرهم، وتقعوا في مهالك أمرهم، وآثِرُوا سبيل أحباء الله على كل سبيل، واستدلوا بما كان لهم على سبيلهم من دليل، فإن سبيلهم فيه، وعونهم كان عليه، ما خالط فكرهم، وأحيوا به في الفكر ذكرهم، من نعيم الآخرة الدائم المقيم، وما أعد الله لمن حآدَّه من العذاب الأليم.
ففكروا - رحمكم الله - كما فكروا، تبصروا إن شاء الله من فضل سبيلهم ما أبصروا، وفوِّضوا أموركم في ذلك كلها إلى الله، واعتصموا في ذلك كله بالله، فلا تَدَعُوا فيه يقظة الجدِّ والاجتهاد، بعد التوكل على الله ربكم فيه والاعتماد، وابذلوا لله فيه كل جهدٍ، وأخلصوا له منكم في كل قصد، فإنكم إن تفعلوا ـ ذلك له، وتقصدوا فيه ما يجب فعله ـ تَوَلاكم الله فيه فعصمكم، وكفاكم به مهمكم، ولا تحدثوا أنفسكم بعد أن يمن الله عليكم بهذه النعمة، وبعد الدخول منكم في هذه السبيل المكرمة، بالخروج ما بقيتم منها، ولا بالإعراض أبداً ما حييتم عنها، ولكن وطِّنوا نفوسكم على احتمال صعاب الأمور فيها، ولا تخافوا - ولا قوة إلا بالله - تخويف مَن خوَّفكم عليها.
واعلموا أنه لن يكون أحد في فعله خلصانياً، ولا فيما تتوق إليه نفسه من ولاية الله ولياً، إلا بعزمه على طاعة الله وإقدامه، ومحافظته على ما حكم الله به عليه من أحكامه، فاعزموا على التقوى عزمَ مَن يوقن بفضلها، تكونوا بإذن الله من أوليائها وأهلها، واصرفوا قلوبكم إلى تقوى الله، تكونوا من السابقين بالتقوى إلى الله، فقد نبهكم الله لها وأيقظكم، وأمركم بما تعملون منها فوعظكم.(2/237)


[الموت]
والموت رحمكم الله فقد أبان النداء، وداعيه فغير مُفتر في الدعاء، يختطف - ملحّاً دائباً - النفوس، ويميت الكبير والصغير المنفوس، لا يُغفِل غافلاً وإن غفل، ولا يؤخر مؤملاً لما أَمَّل، بل يكذب الآمال، ويقطع الآجال، ويفرق بين الأجساد والأرواح، وفي أي مساءٍ يأتي أو صباح، بل في كل حالةٍ وساعةٍ، فكم من بلية أو مَنِيِّة فَجَّاعة، تمنع من روح الأنفاس، وتقطع إلف الإناس، قد رأيناها عياناً، وعلمناها إيقاناً.
وإذا وطَّنتم أنفسكم إن شاء الله على سلوك هذه السبيل، وهداكم الله إليها بما جعل الله في فضلها لأهلها من الدليل، فارضوا بالله فيها بدلاً من الدنيا، واقصدوا قصد وجوه البر والتقوى، واعملوا عمل من يوقن بحصاد مزدرعه وزكائه، وثقوا من الله فيما عملتم من ذلك بحسن جزائه، إذ تحملتم له ولأمره طلب الرضى، وفارقتم لوجهه أهل الدنيا، وحرَّمتم على أنفسكم عارض شهواتها عند اشتهائه، وآثرتم ما أعد الله من الخيرات الباقيات لأوليائه.
واعلموا أنكم إذا أمَتُّم عارض شهواتكم لله، فقد طبتم وزكيتم وأشبهتم المصطفين من عباد الله، وفي غدٍ ما يقول لكم ملائكة رب العالمين: ? سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ?[الزمر: 73].(2/238)

133 / 201
ع
En
A+
A-