?[المطففين: 6]. ? إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ? [الأنبياء: 106].
فرحم الله امرأً، أحسن لنفسه نظراً، فرفع عن الوناء ذيله، واغتنم من الله سبحانه تمهيله، فحسر عن ذراع، وشمر بإجماع، وانتبه عن وسن غفلة الغافلين وإن لم يشعروا، وتيقظ من نوم جهل الجاهلين وإن لم يسهروا، فعلم أن من رحمة الله بنا، وحسن معونته لنا على أنفسنا، أن جعلنا نسقم ونتغير ونبتلى، بمثل ما يُرى من تغيُّرِ أحوال الدنيا، في فناء ليلها ونهارها، وما يُغتذى به في برها وبحارها، من كل مأكولٍ، أو لباس نسج معمول، أو غير ذلك من ألوان فتونها، وما سخر الله من ضروب ماء عيونها، فنبهنا بذلك كله، وبما أرانا من تغيره وتَبدُّله، من قصر مدة آجالنا، وعلى أنه لا بقاء ولا دوام لنا، ولو جعلنا ندوم أبداً أو نبقى، لما جعل بين الدنيا والآخرة فرقاً، ولكان مَنْ عتا الخليقَ ببقائه بادعاء أخبث الدعوى، ولما امتنع من العاتين ممتنع من سهوٍ ولا هوى.(2/229)


[النفس]
ولكنه سبحانه عرَّفنا أنفسنا وفناها، وألهم كل نفسٍ منها فجورها وتقواها، فجعل فجورها غياً وتقواها هدى، وجعلنا تبارك وتعالى نموت ونفنى، لنستدل بالموت وتصاريف طبائع الخلق، على حكمة تدبيره لنا في الفطرة والصنع، وليدعونا خوف الفناء، إلى طلب حياة البقاء، وجعلنا تبارك وتعالى من جزأين اثنين نفس وجسد ثم ألف بينهما بلطيف تدبيره، وأحكم تركيبهما بأحسن تصويره، فجعلهما بعد تباينهما شخصاً واحداً مكملاً، وجعل لبقائه وأيام حياته مدة وأجلاً، ثم أمره بعد كموله فيه، برشده وحضِّه عليه.
فإنْ نفسه سمعت له وأطاعت، وأجابت إلى ما دعا إليه فسارعت، رشد عند الله واهتدى، وفاز من الله بثوابه غداً، وإن نفسه عصته والتَوَتْ عليه وأبت، ما دعي إليه من الرشد فغوت، ولم تعتصم بالله، ولم تذكر رحمة من الله، ضل عند الله فعطب، وهلك في القيامة وعُذّب، فنفس المرء إذا لم ترشد له فشر صاحب، ودعَّاةٌ إلى كل هلكة ومعائب، لأنها لو لا عصمة الله لها في خطاياها أبداً كرارة، ولصاحبها إلى ما حرم الله أمّارة، كما قال يوسف صلى الله عليه :? وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ?[يوسف: 53]. وكما قال شعيب صلى الله عليه في توفيق الله ومعونته له على عبادته، وحسن نظره وعصمته، ولما كان عليه من رعاية حق الله وأمره من إرادته::? إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ?[هود: 88].
فمن خالف نفسه في خطاياها، ومال مع الحق عليها، لم يضرره لها هوىً ولا أمر، ولم يدخل عليه منها خطأ ولا ضرر، ومَن قَبِلَ عن نفسه ما تأمره به من سوٍّ، كانت نفسه له أعدى من كل عدوٍّ.
وقد بلغني أن بعض الصالحين كان يقول: محاربة المرء لنفسه بمخالفته، يثبت فيها طلب ثواب الله وطاعته.(2/230)


[الصبر]
واعلم أنه ليس يسلك سبيل مرضات الله إلا من أيده الله بروح الهدى، وأن ليس يُوصَل إلى سبيل مرضاته جل ثناؤه بالمنى، دون أن يحمل النفس عليها، ويصبر لأمر الله وحكمه فيها، كما قال الله سبحانه :? ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا ?[النساء: 123]. وقال سبحانه :? أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريبٌ? [البقرة: 214]. ويقول سبحانه :? أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذي جاهدوا منكم ويعلم الصابرين?[آل عمران: 142]. وفي مثل ذلك من ابتلاء القائلين، ما يقول رب العالمين :? ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذي صدقوا وليعلمن الكاذبين ?[العنكبوت: 1-3].(2/231)


[التقوى]
فتأهبوا رحمكم للبلوى، وانتهوا إلى ما أمرتم به من التقوى، ونَقُّوا قلوبكم من دنس الدنيا وإيثارها على الله كيما تنقى، وطيبوها بالبر والتقوى وكونوا مع مَن برَّ واتقى، فمتى ما تكونوا مع أولئك، تنجوا بإذن الله من المهالك، ويكن الله جل ثناؤه معكم كما قال لقوم يسمعون :? إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ? [النحل: 128].(2/232)


[التفكير]
واعلموا وَلِيَكم الله أن من أبواب التقوى ومفاتحها، وأقوى ما تَقَّوى به مَن رَشَدَ بإذن الله على قبول نصائحها، حسن الفكر في الدنيا وفنائها، وتقلُّب سرَّآئها وضرآئها، وفي حال جميع من فيها من ملوك الأمم خاصة، ومن دونهم من الخلق جميعاً عامة، فإنكم رحمكم الله إن تفكرتم ـ فتروا، بعين الفكر وتبصروا ـ تعلموا أنهم جميعاً منها وإن اختلفت أحوالهم في السراء والضراء، في مضامير بأقدار أحوالهم فيها من السعادة والشقاء.
وقد ينبغي لمن سلك سبيل مرضات الله وآثرها، وعظَّمها بما عظمها الله به من رضوانه فوقَّرها، أن يتحفظ من نفسه فيها، ويجمع كل أشغاله ولا قوة إلا بالله إليها، فإنه لو تفرغ لخدمة بعض ملوك الدنيا، لَحَقَّ عليه الاجتهاد في بلوغ الغاية القصوى، فكيف بمالك الملوك إذا برز لعبادته، ونابذ في الله عدوه من الجن والإنس بمحاربته، فليتحرَّز ـ مَنْ سلك سبيل ولاية الله ومرضاته، ومن يريد القيام بما أوجب الله عليه من فرض حقه وطاعته ـ من السقط والخلل، وليستيقظ من الغفلة والزلل، وليتيقظ وليعرف قدر ما يعرض لأهل ذلك من البلوى والفتنة، وما ينصب له وفيه من المباينة، وعلم بلواها وفتنها فيجوز في مواطن العزم والشدة، ولا يصبر عند نزول البلوى المؤكدة، فإن ذلك، إذا كان منه كذلك، فليس له به حول، ولا لمن صار إليه إلى الله به وصول، وإنما وصفت لكم هذا فيها، لكيلا يقدم مقدم عليها، إلا بعد علمه بهذا منها، وفهمه لهذا من الخبر عنها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تم نصف الكتاب.(2/233)

132 / 201
ع
En
A+
A-