فاسمعوا لذلك من الله فيها، وتفهموا عن الله دلالته سبحانه عليها، بفهمٍ من قلوبكم مُضي، وعقلٍ من ألبابكم حَيِي، فإنه يقول سبحانه:? وما الحياة الدنيا إلا لعبٌ ولهو وللدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون? [الأنعام: 32]. ويقول سبحانه:? يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور?[فاطر: 5].
ثم قال سبحانه:? من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون?[هود: 15 ـ 16].
ثم قال سبحانه:? من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً?[الإسراء: 18 ـ 19].
وقال سبحانه:? أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب، الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، والذي يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار، جنات عدنٍ يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، والذي ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار، الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ?[الرعد : 19 ـ 26]. فحياة الدنيا وعمرانها عند من يعقل عن الله خراب وبُورٌ، وكل ما في الدنيا من غير طاعة الله فلا يغتر به إلا هالك مغرور.(2/224)
وفي فروع هذا كله وأصوله، وما نزل الله فيه من بيانه وقوله، فقد رأيتم ما قال الله سبحانه عياناً، وسمعتم نداه إعلاناً، وكلا لو رأيتم لعمركم إذاً لأبصرتم، ولو أبصرتم إذاً لاغتنمتم، ولكنكم نظرتم بأعين عميّة، وسمعتم القول فيه بآذانٍ دوية، ودبرتم الأمر فيه بقلوب سقيمة، غير بريَّة من أدواء الأهواء ولا سليمة، فآثرتم ذميم ما حضركم، على كريم ما غاب عنكم، وما عجل إليكم ولكم، على ما قَصَرَ علمُه دونكم، كما قال الله تبارك وتعالى:? يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون?[الروم: 7]. وكذلك فلم يزل العُتَاة الجاهلون، أما لو نظرتم إليه بأعيان جليَّة، وسمعتم القول فيه بآذانٍ سويّة، ودبرتم الأمر فيه بقلوب حَييَّة، لعلمتم أنكم من الدنيا في إدبار حثيث، ومن الآخرة في إقبال غير مكيث، فكأن ليلَكم ونهاركم في مرورهما بكم، وكرورهما عليكم، قد وقفا بكم على آجالكم، وأفرداكم عن غرور آمالكم، وكشفا عنكم أغطية أبصاركم، فحسر رأيكم إن لم يرحمكم ربكم.(2/225)
[الانسان المغرور]
فيا ويل المغرور من نفسه، المخطئ لسبيل حظه، من أي يوميه يُشغل ؟! بل من أي حاليه يغفل ؟! أيوم رجوعه إن عُمِّر إلى أرذل عمره ؟! وحاله حين يصير عَيال عِياله وأسير منزله وداره، أم عن يوم وروده داراً لم يتخذ بها منزلاً ؟! ولم يُقدِّم إليها من صالحٍ عملاً، أم لأي يوميه يفرغ أَلِيَوم حَبرةٍ، يتبعها عَبرةٌ ؟! وفرحة، يعقبها ترحة، وزخرفٍ يعود حطاماً، وفخر يحول بواراً، أم ليوم شغل لما فرغ منه ؟! وتفرغ لما أُمر بالاعراض عنه، واحتقارٍ لما نعي إليه فراقه، وَحِرصٍ على لزوم ما هو مُفارقه، كأنه لا يستحيي مِن حمدِه لمذموم، وركونه من الدنيا إلى ما لا يدوم، واستبطائه لغير دار خلوده، وتكذيبه بفعله لما يزعم من محموده.
فيا عجباً كل العجب كيف ركن إلى ما ذمَّ مختبره ؟! وكيف استفرغه الفرح بجمع ما هو شاخص عنه ؟! وكيف تعقبه الأسف على فوات ما لا يدوم له ؟! وكيف يثق بما ينفد على ما يبقى ؟! وكيف يُغفِلُ - بما هو فيه من النصب لمواتاة دنياه - ما يلقى ؟! مع علمه ويقينه بأنه لا يبلغ منها غايةً إلا دعته إلى غاياتٍ، فمتى إن لم يَرْفض الدنيا يستريح من حاجة فيها تدعو إلى حاجات ؟! ومتى يقضي شغلاً إذا هو فرغ منه فقضاه ؟! عرض له أكبر منه فطلبه وابتغاه.
ففكروا رحمكم الله وانظروا، تعلموا إن شاء الله وتبصروا، أنه ليس لكم من سراء دنياكم، وإن طالت صحبتها إياكم، إلا كطرف العيون، فهي للجاهل المغبون، من ذي دناءة أو لوم، أو فاجر عميٍّ ملعون، قد صارت الدنيا كلها له، فليس يأخذ أحدٌ منها إلا فضله، فقدرته ـ وإن لَؤُمَ ودنا، و كان فاجراً معلناً، على كثير من كرائم النساء، ونفيس المراكب والكساء ـ قدرة الأبرار، وأبناء الأحرار.(2/226)
والدنيا أعانكم الله فيما خلا، وإذ كانت تضرب لفساد أهلها مثلاً، وإنما كان يمسخ أهلها وأنسها، فمسخت الدنيا اليوم نفسها، فلم نترك - والله المستعان - مِن ذكرنا لها زينة ولا بهجة، وعادت الدنيا كلها غرقاً ولجة، فأمورها اليوم كلها عجائب، وكل أهلها في مكالبتها فمغتر دائب.
وقد بلغني أن عيسى بن مريم صلى الله عليه، كان يقول لمن يحضره ولحوارييه: ( بحق أقول لكم أنه لا يصلح حبُّ ربِّين، وما جعل الله لرجل في جوفه من قلبين، لا يصلح حب الله وحب الدنيا في قلب، كما لا تصلح العبادة إلا لربٍ)، وكان يقول صلى الله عليه (بحق أقول لكم: إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وكذلك فحب الله - ولا قوة إلا بالله - فعاصم لأهله من كل سيئة) .(2/227)
أفيرجو من آثر الدنيا ؟! على الله أن يكون مع ذلك لله ولياً، هيهات هيهات أطال من آثر الدنيا، عنانَ عمله الغيُ والهوى، فجمحت به نوازغ الغي المردي، وعتت به مطايا الهوى المضل المغوي، حتى أحلته دار الندامة ولاتَ حين مندم، ثم أسلمته من الحيرة إلى شر مَسلَم، فما ينكشف عنه قناع غرةٍ، ولا يتيقظ من نومِ سكرةٍ، رانت على قلبه بوادر أعمال السيئة، وفِتنُ دهرِه المضلة المعمية، فقاده أهل الدنيا، وأعنق به قائد الهوى، ومنَّتْه نفسه بالاغترار طولَ البقاء، وأسرعت الغفلة في أيامه بالفناء، وكذبته نفسه في أي حين وأوان، وفي أي حالٍ - رحمكم الله - ومكان، حين لا رجعة ينالها، ولا إقالة يُقالها، وعند معاينته الأهوال، وما لم يخطر له ببال، مِن هتكِ ستور السوءآت، وهو في حالِ أحوج الحاجات، إلى ما كان تركه فقراً وبلاء، وغيره هو الخفض والغناء: ? يوم الآزفة إذا القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع?[غافر: 18]. ? يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ?[النور: 24 ـ 25]. يومٌ خافَتْه رجال فمدحهم الله وزكّاهم، وأحسن على مخافتهم له ثوابهم وجزاهم، فقال سبحانه فيهم، وفي حسن ثنائه – بمخافتهم له – عليهم :? رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب?[النور: 37 – 38]. ويقول سبحانه:? يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا إنا معكم منتظرون?[الأنعام: 158]. ويقول سبحانه:? يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، وأزلفت الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين ? [الشعراء: 89 ـ 91]. ? يوم يقوم الناس لرب العالمين(2/228)