[أول الواجبات معرفة الله]
فابتدئ يا بني ـ في طلب فعل الصالحات، واكتساب الخيرات، إذا ابتدأت ـ بطلب اليقين بالله، وحقيقة العلم لله، فإنك إن تفعل اهتديت لكل بركة وخير، وظفرت بالحظ الكبير، وأمِنْتَ بإذن الله من العمى، ورويت بمعرفة الله من الظماء، وشاركت الملائكة المقربين في عبادتهم، وازددت مما يمكنك من فعل كل خير مثل زيادتهم، وأنَّسَكَ يَقِينُك بالله من كل وحشة مرعبة، واكتفيت بصحبة الله من كل صاحب وصاحبة، وخف عليك من عبادة الله عبء الأثقال، فكنت إماماً للصالحين في صالح الأعمال، فدانت بالبر أعمالك، وصدَّق قولَك في الخير فعالُك، فكنت إلى الله حبيبا مخبتاً، وكان سمت الصالحين لك سمتا، وَمَنْ وَالَى الله من أوليائه لك وليا، وما رضيه من الأشياء عندك رضيا، ورأيت السوء حيث كان سُوًّا، واتخذت عدو الله عدوا، وكنت من خاصة الله وخلصانه، وأهل العلم بالله وإيقانه، وانفتحت لك بعد اليقين بالله أبواب العلوم، وكنت في الأرض قيما من قَوَمِةِ الحي القيوم، فَقَرَّت بالله عينك، وتَزَيَّدَ بالله يقينك، وانشرح بمعرفته صدرك، وعز بأمره سبحانه أمرك، فلم تهب ولم تخش غيره، ولم ترج من الخير إلا خيره، وعلمت أنَّه سبب الخيرات الأول، وأن بيده الفضل الكبير الأطول، فأمنتَ بإذن الله مسكنة الفقراء، وامتلأتْ يداك من الغنائم الكبرى، وكنت على ملوك الدنيا ملكا، ونجوت بإذن الله من هلكة الهلكى.(1/61)


ففي طلب اليقين بالله يا بني فادأب، ومن رجوت عنده على اليقين بالله عونا فقارن واصحب، فإنهم أُلفاءُ كلِّ رحمة، وقرناء كل حكمة، لا يرغب لبيب إلا فيهم، ولا تنزع نفس حكيم إلا إليهم، فمن لم يكن منهم فأعرض عنه واتركه، ومن كان منهم فاشدد به يديك وامسكه، فإنه بلغني أن حكيماً من الحكماء، قال لبعض من كان له علم كثير من القدماء: يا هذا لا تَرَينَّ أنك علمت شيئا وإن علمت كل شي، ما لم تكن عالما بالله الأول الحي، الذي هو سبب كل خير كان أو يكون، والذي تعالى عن أن يلحق به حركة أو سكون. ثُمَّ قال: يا هذا إني كنت قبل أن أعرف الله أروى وأظمأ بالطباع، ولما عرفت الله رويت بغير طباع.
نعم رَوِيَ فشفي بالهدى!! من حَرِّ الغُلَّة والصدى ! ولما صار إلى اليقين بالله تبارك وتعالى، الذي هو سبب الخيرات الأول الأعلى، غَنِيَ بالله غنى الأبد، وصار إلى الغنى الباقي المخلد، وسكن اضطراب نفسه وقلقها، إذ عَلِمَتْ يقينا أن الله هو ربها وخالقها.
وبلغني أن حكيماً آخر من حكماء الأولين، كان في أمة تعبد الأصنام من الأمم الخالين، كان يقول: من أيقن بالله إيقاناً نقيا، لم يزل بالله في عاجل الدنيا ما بقي غنيا، وأيقن ليقينه بالله بكل حقيقةِ علمٍ معلومة، وأدرك ليقينه بالله من العلوم كل ذاتِ سرٍ مكتومة، فاطلع بما ينوِّر الله من قلبه على خفي سرها، وأَمِنَ أن تتعبده الدنيا بِرقِّ مسكنتها وفقرها!.
وبلغني أيضاً عن بعض من تقدم وخلا، من الأمم السالفة الأولى، أنه كان يقول: لا يشك أحد ولا يمتري، ممن خلا ولا ممن بقي، في أن مَنْ جَهِلَ الصانع كان للعقوبة مستوجبا مستحقا، نعم ولم يؤمَن عندي أن لا يكون ممن يعرف من الحقوق كلها حقا، إلا معرفة فاسدة مختلطة، مقصرة عن التحقيق أو مفرطة، لأن من جهل ما كثرت دلائله وشهوده، وُوُجِدَ بمتظاهر الآيات فلم يُدفع وجودُه، حريٌّ حقيق، وجدير خليق، أن يكون بكل شيء جاهلا، وأن لا يعتقد من علم شيء طائلا.(1/62)


أما رأيت العامة لما هي فيه من الجهل بالله الأعلى، إذ جهلت ما قلنا مما كثر الله على معرفته الأدلاء، كيف قَلَّتْ بحقائق الأمور علومها، وضَلَّت بعد جهلها بمعرفته حلومها، فقالت في دينها بكل قول متناقض مذموم، لا يصح لفحش تناقضه في الألباب ولا الحلوم، فهي فيه دائبة تَخبِطُ كل عشوى، وصادة عن سبيل كل تقوى، ترى معتقد باطلها فيه حقا، وزور قولها فيه على الله صدقا، وقبيحها فيه حسنا جميلا، وجهلها به علما جليلاً.(1/63)


فمَن جهل الله تبارك وتعالى، فلن يدرك بحقيقة من الأشياء إلا شُبَهًا أو خيالا، ولن يزال متحيرا في الأمور خبَّاطًا، ومقصرا في حقائق العلوم أو مفراطًا، لا يَقرُّ به قرارُ علمٍ فيسكن، ولا يذل لمحق في حجته فيذعن، ولا يزال مفتريا على المحقين كذبا، ومدعيا من الباطل دعوى عجابا، ليس لها من الله سبحانه تصديق، ولا يشهد لها في الألباب من برهانٍ تحقيق، وإن كانت في نفس مدعيها ذات حقيقة وبرهان، فإنها في حقائق الأمور كسراب القيعان، كما قال الله سبحانه: ? والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب، أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ? [النور 39-40]. انظر كيف يمثله لإغفاله، فيما يراه حقا من باطله بأمثاله، من ذوي الضمأ، وبمن ينظر في الظلماء، فلا يرى يده ولا يكاد، فكيف يقود أو ينقاد له في الظلماء منقاد، إلا أن يكون مثله عميا، لا يرى لعمى قلبه شيًا، فهو ينقاد في ظلمة وعشوى، لمن لا يبصر ولا يرى، ولمن آثر الضلالة على الهدى، فهو متورط في ورطات الردى، يركب بعضه في كل هوة بعضا، رافض لكل حقيقةِ علمٍ رفضا، لا يسمع لكتاب الله به نداء، ولا يقبل من الله فيه هدى، مُخِبَّةٌ به في خبوت الضلال ركائبُه، عظيمة عليه في هلكة الدين والدنيا مصائبه، غير متحفظ من هلكاته بحفظ، ولا متعظ من عظات الله بوعظ، غَلِقٌ بين إطباق خطيئاته، غَرِقٌ في بحور عماياته، لما عطل من يقين علم الكتاب، ورضي من صحبته بشكوك الارتياب، فبالله يا بني: فعُذ من موالاته، والرضى بما رضي به من تعطيل ما عطل من كتاب ربه وآياته.(1/64)


[الاصغاء لحديث القرآن]
وإذا أردت أن ترى عجائب الأنباء والأنبياء، وتعلم فضل عدل حكم الله في الأشياء، فاسمع من الكتاب ولا تسمع عليه، واكتف بحكم الله على العباد فيه، فإنك إن تسمع صوتا عنه بأذن واعية، ثم تُقْبِل عليه منك بنفس لحكمته راعية، تسمع منه بالهدى صيِّتا، وتعرف مَن جعله الله حيا ممن جعله ميتا، فلعلك حينئذ عند معرفتك به للأشياء، تهرب من الميتين وتلحق بالأحياء، فتجد طيب طعم الحياة، وتثق بالقرار في محل النجاة، فتنزل يومئذ منازل العابدين، وتأمن الموت حينئذ أمن الخالدين، ففي مثل ذلك فارغب، وله ما بقيت فانصب، فللرغبة فيه، وللحرص عليه، اسَتنْزَلَ إبليس أباك آدم فأغواه، وبالخلد في معصيته الله منَّاه، فقال له، ولزوجه معه: ? ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاَّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ? [الأعراف:20]. وفي ذلك: ? وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، فدلاهما ـ كما قال الله ـ بغرور ? [الأعراف:21–22]. وكذبهما فيما منَّاهما به من الأمور، فأُعقِبا برجائهما في المعصية لله ندما، ونسي آدم صلى الله عليه ولم يجد الله له عزما، كما قال سبحانه: ? ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ? [طه:115]. فلو لم يعص الله للبث فيها أبداً، ولو أطاع الله في الشجرة لبقي فيها مخلدا.
فكذلك يبقى فيها يوم القيامة، وفي الآخرة الباقية الدائمة، مَنْ أَطاع الله في هذه الحياة الدنيا، وقام بما يجب له عليه فيها من التقوى، فيدوم في الجنة له النعيم والتخليد، ويبقى له ما هو فيه من نعيمها فلا يبيد، فطاعة الله مفتاح الخلد في الجنة، واليقين بالله مفتاح كل طاعة وحسنة، فَأَيقِن بالله تُحسِن، وأحْسِن لله تُؤمِنْ.(1/65)

13 / 201
ع
En
A+
A-