[المبادرة إلى الخير]
يا بني: وما كان لأوله ابتداء، فلآخره انقضاء، ولا بد أن يجري عليه عند نهايته الفناء، وإذا أوجبتَ العطية فأسرع بها البدار، وأنجز موعدك لأهل الاضطرار، قبل أن يذهب نشاطك، وينقبض انبساطك، وعجِّل بالمعروف، كي يتجدد لك شكر الملهوف، وإذا أردت إنعاما وإتحافا فلا تُرد بذلك مطلا، وكن عند نفسك لما دعتك إليه من ذلك أهلا، ولا تُكَدِّره بالتأخير، ولا تستدع الذم فيه بضرب المعاذير، فإن ذلك منقصة لك عند الصغير والكبير.
يا بني: ارعَ سالف الحرمة وأدِّ حقها، وسدد طرقها، ولا تنس ذمتها، ولا تَمَلّ طول صحبتها، فيعود ذو الثقة بكمن وفائك يائسا، ويُظهِر لك بعد الاسفار وجها عابسا، وأرفد من أتاك متسترفدا، وكن له بما يمكنك مستعدا، فإن عجزتَ عن رفده، فاردد عليه ماء وجهه بما يَحسُن مِن ردِّه، مع بِشرٍ تبسطه، وتُحِلّ من ورطه، فإن ضربت له عذرا عَذَرَ، وإن أَولَيتَه وأنلتَه معروفا شَكَرَ، وعد القليل مع الانبساط كثيرا، والكثير مع الجبروتحقيرا.(2/214)


[نصائح ملوكية]
يا بني: وإذا وجدت للرخاء موضعا منفسحا، لم تكثر به إلى الطماح مرحا، وإن كنت ممن يصحب الملوك، فاصحبهم بالجلال والتعظيم يكرموك، ولا يحملك كثرة الأنس بهم، على الحرص فيما ينقصك من مودتهم، وأكثر الهيبة لهم، فإنهم إنما أطالوا الحجاب، وصفدوا دون العوام الأبواب، لتملأ القلوبَ هيبتهم، وتُرعِد الفرائصَ سلطنتهم، فعلى حسب هذا فاصحبهم، وإلا فأقصر عن الاتصال بهم.
يا بني: ولا يكثر من دهرك يأسك، ولا عند تثبطه بأملك إبلاسك، فإن جميع من يُحسد على ما أفضى إليه، لم يدركه إلا بعد تأبِّيه وتعذُّره عليه.(2/215)


[التأمل]
يا بني: وأكثر التأمل فيما يشخص إليه طرفك، وتمنَّاه نفسك، مما أوتيه من هو أجلُّ منك قدرا، وأكثر منك يسرا، إلى ما تؤول إليه العواقب، وماذا تُدِيره عليه النوائب، فربما كان ذو الاقلال، أنعم بالاً وأحسن حالا من صاحب الأموال، ومن سَقَتْه الدنيا من صفو لذاتهاكأساً ملأ، جَرَّعته من كريه مرارتها ما يعود عليه وبالا، لأن صفوها ممزوج بالكدر، وأملها متنكدٌ بالغِيَر، وعلى كلِ رائق منها للناظرين، رقباء غير غافلين، يستلبون المهج، ويدرسون بهجة المنهج، مع كثرة الإعراض، وسرعة الإنعاض، وتضييق الغلاصم، بخفي العظائم، والحفظ بعيد عمن غَلُظ طبعه، وضاق خلقه.
واعلم يا بني: أن العاقبة، نعمة كاملة، وإن أعطي الانسان من دهره المنى، وأُتحف منه بالرضى. ومن كثرت دعته، وحَسُن خلقه ومروءته، فقد استكمل الفضل، وحاز بفوزه الخصْل.
يا بني: ولو شُرِي الخلق الحسن بجميع الدنيا لكان رخيصا، وكان شاريه وإن بقي فقيرا بالظفر مخصوصا.(2/216)


[حوادث الأيام]
واعلم يا بني: أن الأيام نبلٌ مسمومة، والخلق أهداف مرمية، والزمان لهم مرشق يرميهم في كل يوم بنافرة، وتدور على الكواهل بأدمعٍ دائرة، حتى يدع اللحم عريضا، والعظم مهيضا، ويستغرق كل يوم من أجزاء الانسان جِزوًا، يُصَيِّره به نضوا، فماذا يُبقِي من الأجسام ممرُ الليالي والأيام، وكم ذا يكون صبرها على نوافر السهام، فياأيها ذا الذي دلاه الغرور بالغرور، وزيَّن له ما يُستقبح في عواقب الأمور، لو هُتِكَت لك مسدلاتُ الأستار، عما يَخترم منك الليل والنهار، وما يَكِرُّ به لينجزما بقي منك العشيُّ والإبكار، لأَمَضَّك الجزع وقل منك الاصطبار، ولأوحشك من الساعات التكرار، ولكن تدبير من بيده الأقدار، يعزب عن أن يعلم كنهُه بالاعتبار.
يا بني: فاسلُ بكثير غوائل الدنيا عنها، وخذ ما صفي منها، فإن ضجيعها مغبون، والراكن إليها مفتون، والوافر الحظ منها فيها محزون، وهي أقل من كل قليل سماه المسمُّون، وقد عجز عن وصف عيوبها الواصفون، وقصر عن علم عجائبها العالمون.
تم كتاب المكنون بحمد الله ومنِّه وتوفيقه، وحسن إعانته.
والحمد لله كثيرا بكرة وأصيلا.(2/217)


سياسة النفس
حدثنا أبو محمد، عبد الله بن أحمد، قال: أخبرني أبي رحمه الله أحمد، بن محمد، بن الحسين، بن سلام قال: أنفذ إلينا أبو محمد، القاسم بن إبراهيم، بن إسماعيل، بن إبراهيم، بن الحسن، بن الحسن، بن علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى أهله الأئمة الأكرمين، أول ما أنفذ إلينا من كتبه، كتابا يقال له: ( سياسة النفس ).
قال أبي رحمه الله: فلما قرأنا الكتاب وكنا لا نرحل إليه، ونرحل إلى غيره من أهل البيت عليهم السلام، فأسفنا على ما فاتنا منه، وقلنا: ليس من حق علوي يحسن أن يقول مثل هذا، إلا أن نكون جوابَ كتابه. فرحلنا إليه، فأقمنا عنده في أول رحلتنا إليه سنة، ثم بعد ذلك كنا نرحل إليه في الأوقات، ثم سمعنا منه هذا الكتاب، وأوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
بالله أستعين(2/218)

129 / 201
ع
En
A+
A-