[الكبر]
يا بني: واجتنب الكبر فإنه رداء الجبار، والمعطل للديار، والمحل لصاحبه دار البوار، والمغير للانعام، والمعجل للانتقام، وعليك بتحصيل الأشياء وفحصها، وقرع أبواب زيادتها ونقصها، وتصريفها على جهتها، وقلة العجلة في التبصر بها، حتى تتضح لك آثارها، وتُسفِر لك أوجهها، ثم استقبلها في أوان العنفوان، ولا تَنقَدْ بالهوى إلى الوَخَممن الأعطان، فتجرحك الأوهام، ويصرعكما ليس لك عليه قوام، فقد عاينت جرحى الأيام، وقلة رأفتها بالكرام، وكثرة رجوع صرعاها على أنفسهم بالملام.(2/209)
[شهادة الليل والنهار]
واعلم يا بني: أن الليل والنهار ينقرضان ثم لا يعودان، وبالحسن والقبيح يمران، وعلى كل صغير وكبير أفعالَه يُثبتان.
يا بني فإن قدرت أن تدفع في كل ساعة تمر بك مُوبِقالسيئات، بصالح الحسنات، وتبني مكرمة تحظى بها يوم القيامة، وتنجو بها من الندامة، ويثلج بها في الدنيا صدرك، ويُفسح لك بها قبرك، فافعل وعجِّل ثم عجِّل، وأنت في حين المهَل، ولا تكثر التسويف فيطول عتبك، وينقضي بخطلٍ يومك، فإن في ساعات الليل والنهار سجلات مطوية، تؤدي ما استُودِعت بصدق الرَّوِيَّة، فَضَمِّنها الجميل تؤدِّ عنك باقيا، كنت أو فانيا، كحسب ما أدت من الودائع، في الليالي الخوالع، من مكارم الكرام، ومثالب اللئام، ثم لم ينطمس ذلك مع الرسوم الطوامس باقيا ما بقيت الدهارير، حتى تحيط بالعالمين ملمات المقادير.
وكلُ مَن لم يَسمُك على ما بَنَتْ له الجدود، بناء يعلو له فيه التشييد، فالمحامد منه بعيد، وركن الشرف الذي اعتمد عليه مهدود، لأن الساكن في غير ما يحوي فهو منه خارج، يا بني: ومَن لم يشرِّفه فعالُه فليس في شرف سلفه بوالِجٍ، إذا لم يُزَيِّن الشرف التليد، بالفعال الحميد !! لأن السلف الماضين، إنما شرفوا في الخلف الباقين، بالمكارم المعدودة، والخلائق المحمودة.(2/210)
[رقابة الناس]
يا بني ومن أَسَّسَ له أوَّلُوه أركانا، ثم لم يُعلِ عليها بنيانا، فهو بمعزل مما أسسوا، خِلوٌ عن رِباب ما اغترسوا!! ومن أحيا بعز أيامه أيام الأباء والأجداد، فَاشَ ذكره كما فَاشَ ذكرهم في العباد والبلاد، فلا تُكذب نفسك الخبر، فإنه سيمحضُ منك المختبرَ، عيونٌ جساسون، عيَّانون بحاثون، ولخطأك مُحصُون، ولما يكون منك حافظون، فجنب قدمك مواضع الدَّحضَات، ولا تسعَ بها في مهايعالمنكرات، فإن الناس، حفظة على الناس، ما يأتون وما يذرون، فربما ذكَّرواالمرء في الأحيان، بسالف ماذهل عنه بالنسيان، وأتاه عنهم ما قد غيب عن فِكَرِ الأذهان، فليطل منهم حذرك، وليكثر لهم قهرك، بتنزيه نفسك عمايتطلعون إليه من سقطتك، ويبتغون هدَّه من ذروتك، وليكن التَّرقِّي في ذرى الشرف من همتك. ولا تَشُبِ الشك باليقين، ولا المعرفة بسوء الظنون، فينتقض ما أبرمت، ويتغير ما عليه عزمت، ويلحقك الضعف، فتقف عن العمل وقوف المغلول من الكف.(2/211)
[القناعة]
يا بني: وإياك وكثرة الحرص، فإن التخلق به يرجع بك إلى النقص، ويُذهب عن صاحبه الهيبة، وتكثرله من الناس الغيبة.
يا بني: ألزم نفسك التجمل بترك السؤال، ما وجدت البلغة بما قل من المال، فإن رزقك في كل يوم، يمر بك مقسوم، والالحاف في السؤال أمرٌ مذموم، وبهجةالبهاء معه لا تستقيم، ولا مروءة لمن لم يكن الصبر له غالبا، والاحتساب له صاحبا، فادخر لنفسك القنوع بما يبلغك المحل وإن قل، فإن ذلك من شمائل أهل الفضل، حتى تنغلق عنك أبواب العسرة، وتنفتح لك بما تحب أبواب الميسرة، فإن ذا القناعة قد يمنح من الله النصرة، في الدنيا والآخرة. وأَخلِق بذي التأني أن يظفر بحاجته، وأن يعطيه الله أفضل أمنيته، مع ما يتطول به عليهمن عونه وكفايته!! ولَرُبَّ ملهوفٍ عُجِّل له غواثه، وقل عليه ارتياثه. ولربما أدَّب الله عبده بالفقر وابتلاه بالعسر اختبارا، ليجعل له في عاقبة ذلك خيارا، يُعلي له به ذكرا في الحظ من لدنه، وهو في ذلك راض عنه! فلا تقطف ثمرة لم يَبدُ لك صلاحها، ولا تطلب حاجة لم يأن لك نجاحها، فإنك تذوق معسول الثمرة في إبانها، وتظفر بحاجتك عند بلوغ أوانها، والمنفرد لخليقتهبالتدبير، أعلم بالمدة التي يصلح فيه التقدير، فاستَخِر اللطيف الخبير، يَخِر لك في جميع الأمور.
يا بني ولا تجعل الدهر يوما واحدا، فإن مع اليوم غدا، واطلب حوائجك بَدَدًا، ولا تطلب جميع حوائج عمرك في يومك، فيكثر قنطك ويتغلغل صدرك.
يا بني: خَاشِ الجديدين، في كلتا الحالتين، تظفر بإحدى الحسنيين، اصحبهما بأجمل ما به يُصحبان، وامرر معهما كما يمران، ولا تصاعبهما فيصاعباك، ولا تكاشفهما فيكاشفاك، بمكروههما، وأقلل من معاتبتهما، وأكثر موادعتهما، وأَطِل بالرضى مسالمتهما، يثلج من الهموم صدرك، ويَصْفُ لك بلذيذ العيش عصرك، واحذر عسفهما فإنهما إن عَسَفَاك عجزت ولم تنتصر، ولم يدافعهما عنك أحد من البشر.(2/212)
يا بني: ومن كثرت مراقبته، طالت نعمته، والنعم أسرع شيء زوالاً عن البَطِر، وليس لها عنده مستقر، وليس يدركها ذو الفظاظة والغلظة إلا بالمحتوم من المقادير.
يا بني: وربما حُبِيَ القاسي الذي ليست من شكله منها بالسرور، وقد يكون استدارجا للنحرير، وسببا للحسرة والوبال، على المهذب من الرجال، فاحجب بينك وبين المحبوب بستر لا تَنهِتُك أطنابه، ولا تَنبِتُك أسبابه، وعليك بالصبر عند نفاره، لكيلا تفجعك فرقته عند إدباره، لحادث يصرفه عنك، ويستنزعه منك، فإنَّ مَن لم تَحسُن - بديهته عند نائبته، ويغلب جميلُ عزائهجليلَ مصيبته، قبل أن تدور الدوائر بفجيعته - عِيلَ صبره، وامتلأ بالرزايا صدره، إذا هجم عليه غائبها، وبرك بكلاكله على كاهله نائبها.
يا بني: رَبِّ النعمَ بالشكر فإن النعم أقسام، تقسمها الأيام، ثم تضرب لها أجلا، وتجعلها بين الخلائق دُولا، تُمَتِّع بها قوما وتُعدِمها آخرين، ثم تسلبها بالكلية من الناس أجمعين، وليس عليها شرائط للمستفيدين، يستوجبونها دون الآخرين، ما كانوا في الأحياء المرزوقين، ويستحيل أن يكون ذلك في أمل الآملين، وإنما هي بلاغ وعارية إلى حين.(2/213)