[أصناف الناس]
يا بني: الناس رجلان، فرجل ذو عين باكية، على ممر أيامه الخالية، متأسٍّ على أخدان له سلفوا، وَآَلافٍ له انقرضوا، يَشرَقُ بغصته، ويأخذه الشجا في حنجرته، فلا يتهنأ بطعم، ولا يتلذذ بنوم، فُقدًا لسالف معاشريه، وتوجعا على ما فاته من قديم عهده بمؤالفيه، حتى كأن لم يفارق مصافيا، ولم يعدم مؤاخياً، إلا في ذلك الحين الذي هو به، فحُرقته لا تنجلي عن قلبه، فذلك المواسي عند حلول النوازل، الجواد بمهجته في الخطوب الجلائل، الذي لا يلهيه عن الاحتيال فيما يحل بأخدانه، من نوائب أزمانه، حتى تنجلي بُهمَتُها، وتنكشف كربتها، فذلك الرقيق قلبه، المداوم على الحفيظة أربه، فاشدد به يدك، تقرّ عينك، من غير أن تترك الاحتراس، لتقلُّب الأيام بالكثير من الناس.
وآخر ساهٍ عن ذكر مَن تولى، كثير السلوِّ عند نزول القضاء، طويل الغفلة عما يُلِظُّ بالأخلاء والأقرباء، دائم الجفوة والقسوة، إذا انقضت ساعته، انجلت غمته، وبردت حرقته، فذلك الذي لا يرنق صفوَه كدرٌ، ولا يثق بوفائه بَشَر.
يا بني: ومَن أحب أن يصلح خلقه، وتسدد إلى الخيرات طرقه، فليصحب الكرام، وليَقِلّ - فيما يعود وبالاً عليه - الكلام، وليصن لسانه عن مفاكهة اللئام، ونفسَه عن مخالطة الكهام. وليس من مخلوق إلا وله دليل يُستدل به عليه، وسائسٌ يشرع بالأبصار إليه، فصن نفسك يا بني عن موضع الرِّيب، ومهازلة الحمقاء.(2/204)


واعلم يا بني: أن مخآلة الرعاع والأوباش والأوغاد، ربما آَلَ بالطبع الحسن إلى الفساد، غير أن المغرس إذا كان كريما، والفرع محضا صميما، أيقظ المرء عن سنته، ورده إلى أوليته، ومحَّضَ من العلل دَرَنَ غريزته، ومَن رِيضَ ولا غريزة له بأدب سَلِسَ ثم رجع إلى الحران ودحض به عن الاستقامة القدمان، وقَلَّما انفردت غريزة من عقل ولا عقل من غريزة، فمن طُبع على واحد منهما كان الآخر له لاحقا، ومن خلا من واحد منهما كان الآخر له مفارقا، ومن أَلانَ جناحه للمخاشن، وجعل وجهه بَسَطا للملاين، وألقى مِقْوَدَه إلى المحاسن، فقد ارتقى في ذروة المكارم، واستُعين به على العظائم، واقْتَرَفَ الحمد من المباعد والملائم .(2/205)


[مكارم الأخلاق]
يا بني: فتَعَوَّد القولَ الجميل، وأَصبِر على ذلك نفسك صبر الحازم البهلول، وآسِ من رآك لحاجته أهلا بالكثير والقليل، ولا تَشخص بطرفك، إلى مكافأة الممتاح لعرفك، فيذهب صنيعك ضياعا، وتكون بمنزلة من أعطى صاعا ليأخذ صاعا، وإياك ومذآقة الأخلاء، والاستطالة بالغناء، والاستقصاء في شيء من الأشياء.
وألزم نفسك يا بني: الكرم والتذمم، وقلة التعظم، وأعظم شأنك بالتصمامم عن اللغو المنكر، وبالتغافل عن الأمر المصغر.
يا بني وكن للراغب إليك وصولا، وللضعيف الطارئ عليك مُنِيلا، بذات يدك إن أمكنك، أو بجاهك إن أعجزك ما أمَّل منك، ولا تتبع عورات الجيران والجارات، ولا تبحث عما استتر عنك من العثرات، وتغطَّ بستر الله عليك قبل أن يهتك بحثُك عن أستارك، فينكشف ما استتر من عوارك .(2/206)


[الكذب]
وتهذَّب من الكذب، فإنه مسخطة للرب، مفسدة للقلب، ضعة للنبيل، نقصٌ لذوي العقول، وهو ضرب من الفحشاء، وشيمة من شيم الحمقاء، ورأس مال أصحاب المُنى، وربما استحلت به الدماء، ورُكب به الدهماء، واستبيحت به القرى، وعظمت به البلوى.
فكن يا بني لعرضك منه صؤونا فإنه إذا تضمنته الأحشاء، جاشتبه إلى الصدور الحوباء، ثم تَلَقْلَقَ به اللسان، وفشى منه الكتمان، وفارت به الشفتان، فوران المرجل بوقود النيران.
يا بني: وإذا تمكن من قلب خرب، وغلب عليه كل الغلب، وكاد لا يفارقه آخر الحقب. وكم من صاحب له يريد انتزاحه منه فلا ينتزح، و إصلاح لسانه منه فلا يصلح، لكثر غلبته، وشدة ضراوته، والكذب مجانبٌ للحق، مكذَّبٌ مَن عُرف به في الصدق.(2/207)


[قواعد أخلاقية]
فتأدب يا بني: بأحسن أدب المتأدبين، واقتد بهدى الصالحين، واستغشِ بثوب السلامة، ولا تَدَرَّع سرابيل الملامة، وتودد للخآصة والعامة، وأَجمِل البِشرَ في اللقاء، للعدو ولذي الصفاء، وابذل له الانصاف في كثرة الاصغاء لكلامه، والاستماع لحديثه، ولطف الاجابة له على مقالته، والمكافأة بما ترضيه في عشرته، واستبرز في حديثه، ولا تستطل ريثه، فإن لكل واحد في نفسه قدرا، كبيرا كان أو صغيرا، وأكثر تبسطه إليك، وقاربه ليألف ما لديك، واستعمل عقلك في كل زمان بما يصلح له من الأدب، واسعَ مع أهله في كل عَدْوٍ وخَبَب، يَفِر لك عرضك، وتستوطئ بك أرضك، ويستحكم لذلك إبرامك ونقضك، ويستتر عنك مُدَّعِي بغضك.
ولا تحمل الحقد على أترابك، ولا تحملنك المماحكة في الأحكام، علىملآدَّةذوي الأحلام، فربما أورث المحكُ الشحنا، وأبان لك من خليلك ما كان عنك مستكنا.
تم الجزء الثالث من المكنون والحمد لله رب العالمين.
واقبل نصيحة من حباك بنصيحتة، واتعظ لموعظته، لا تجانب السداد، واحتمل قوارع الفؤاد، واسْلُ عما كنت له آلفا، حتى تظفر بما صرت له مستأنفا، وتَصَرَّفَ لك نفسك تصرفَ الذلول في زمامك، وتكون عيوبك أمامك، ترمقها بعين العِيافة، حتى تعود إلى ما به أُمِرت من المؤالفة، وإياك أن تكون على ما لا تَمُقْه من غيرك مقيما، فتكون عند الناس مذموما، ولا تدع إصلاح ما يذمه منك غيرك، باجتنابك له ما مُدَّ لك عمرك.
يا بني: فإن عجزت عن استئصاله، فَحُل به بالتحلق عن محآلِّه.(2/208)

127 / 201
ع
En
A+
A-