[مفردات أخلاقية]
وأحذرك يا بني: العجلة وإياك أن تكون عجولا، فيما تجد إلى التثبت فيه سبيلا، وتَبَيَّن في صدور أمورك من قبل أن تبدو لك عواقبها، وتنكشف لك معائبها.
واعلم - يا بني - أنك المشار إليه عند عجلتك، بما تسمعه أذنك، فيمن قلَّ تثبتُّه، وذُمَّ على ما تكسبه عجلته! فأَكثِر من العجلة التقيَّةَ، وعلى نفسك من قبح القالة البقيَّة، وإياك أن يوردك الغضب موارد العطب، ويُشعلك إشعال النار للحطب، فادفعه بالاحتمال قبل أن يضطرم، فيهريق الدم ويَصِم العظم ويسلّ اللحم، فأخمِدْه قبل أن يتلظى، فإنه إن استعر بهظك بهظا، ثم دفن ما كنت تُذكر به من المحاسن، وأعلن ما كنت تكتمه من المقارن.
واعلم يا بني: أن آفة السلطان، الجور والتجبر على الانسان، إياك إن كنت سلطاناً أن تستظهر ذنوب المذنبين، أو تعاقبهم عقوبة المغضَبين، وإن كنت سوقة فماذا يضرك مما يلمزك به الناس من المنطِق فيما ترجو به الرفعة، والعلو بعد الضعة، وإياك أن تغضب على مَن دونك، أو تستصغر مَن فوقك، وَجُدْ بالفضل على من ناواك، وبالصفح عمن عاداك.
واعلم أنه لا بد للمكارم أن تعلو، وللمحاسن أن تفشو، من ناشر لها يُلبسك هيبتها وجلالها، ونبلها وجمالها، حتى يَنسُم عليك روحُها، ويشيع لك حمدها، ويتجلى بها عنك الغماليل، ويرد بها من قلبك الغليل.(2/194)


يا بني: عليك بالحلم فإنه ليس يسمى الرجل حليما حتى يملك نفسه عند الغضب، ولا جوادا حتى يفيد إذا ازلأَمَّ الأزب. وإنما يوصف بالنجدة، من باشر أهل البأس والشدة. وللمحاسن والمحامد بوآدٍ معتمدة، تَطَلَّع إليها الأفئده، ثم يُبذل فيها الغالي من الأثمان، وتُنضَا بها العيس إلى جميع البلدان، فمَن سرَّه أن يشهر بالجميل والاحسان، فليشهد التي منها يتناقلان، ثم ليظهر منهما ما يسير به في الآفاق خَبَرُهُ، ويَعظُم به في الناس خَطَرُه، ثم ليقوِّم من نفسه بحسن التعاهد أوَدَهَا، وليأخذ منها لها ما يزين به غدها، فإن الأخلاق إذا سمحت، والعلانية والسريره إذا صحَّت، كانت غنائم يرتحل إليها المرتحلون، وأحاديث حسنة ينقلها الناقلون، وتبجيلا لصاحبها في العالمين، وغبطة يُغتَبَطُ بها يوم الدين.(2/195)


[الخلق والمال]
والواجب في الأخلاق أكثر من الواجب في الأموال، وأفضل في جميع الأحوال، وإنما يُعَظَّم ذو المال ماكان موئلا، فإذا تُخِرِّم ماله عاد دحيرا قليلا !! والأخلاق لا يبلى جديدها، ولا يطيش سديدها، وفضل صاحبها باقٍ في حياته، وبعد وفاته، والمال ثوبٌ تخلق جِدَتُه، وتسمل سداه ولُحمته .
وأحق الأشياء بالصون العرضُ الصحيح، والحسب الصريح، ومن آتاه الله قلبا ذكيا، وزنادا وريا، وخلقا مرضيا، وسخاء مذكورا وعقلا زكيا، وفهما مرضيا، وعلما بتقلب الأحوال، وتصرف الأيام والليال، ولسانا يؤدي إليه معرفة خلف الأزمان، ويمتهنه فيما يعود عليه نفعه كل الامتهان، ثم زمَّ نفسه عن الكُبرة، واعتاض من التجبر حسن العشرة، وقلَّ افتخاره عند مناظرته، ولم يستدع نظيره إلى مباحثته، ولم يجار المجاري له من طبقاته، في طريق مساواته . ولم يخرج من القول إلى مالا يعلم، ولا من الفعل إلى ما يُستَعظم، فقد شرى لنفسه محمدة الحاضر والباد، واجتهد في مصلحته أشد الاجتهاد، واستحق التعظيم مِن جميع مَن ضمته أقطار البلاد، واجتمعت له الطرائق السمحة، وزاحت عنه المذاهب المستقبحة، وجرى عليه اسم الخِيَرَة، ونظرته بالنواظر المبجلِّة كلُ عين مبصرة، وجاز حد الأكفاء، واعترف له بالفضل النظراء.
ولا بد أن في كل منفوس، آلةً تطلع إليها النفوس، ويفتقر إليها حاجةً المفتقرون، ويتشوف إليها المشوفون. فمن قَصَّرعن علمها، عظم في نفسه صاحبها، وجل في عينه بحسب ما يدلُّه، عليه عقله، وحاول أن يكون له على أمره ظهيرا، وارتفعت عنده درجته من أن يكون له نظيرا، ومن اتسع بُدَدُه، لضده ونده، كان على قدر ذلك عِظَمُ شأنه، وارتفاعُ مكانه.
وكم من جامع لمال ! يجود به لينال هذا المنال، ويستدعي من الجميع محبتهم، وينفي به حسايفهم، فلا يدرك من ذلك ما يريد، ولا يؤديه إلى ما يؤمل من العوآم مالُه الممدود.(2/196)


[العلم والمال]
وذو المال - يا بني - مذموم ومحمود، وذو العلم موموقٌمودود، وفي العظماء معدود، وعند التباس الخطوب معمود مشهود، وبعد الوفاة مفقود، ومن أُتِيَ إليه ما يُستنكر في الملأ، فتغمد ذلك بصبر وعزاء، فقد نال من الشرف منالا، محمودا في الآخرة والأولى.(2/197)


[الصفح الجميل]
ومن اعتذر إليه، من أساء فيالمقال والفعال عليه، فأَسرَعَ في القبول، والعطف عليه بالجميل، فقد أبدى جَهْل متناوله بصفحه، وخسرانه بزيادته، وركاكته بركانته، وطيشه بحلمه، وسخافته بتكرُّمه، وجوره بعدله، واستطارتهبعقله، وعجلته، بمهلته، وبآء المعتذر إليه، بسوء الصنيع لديه، وأفاده خير الفوائد، وألبسه عند من كان به جاهلا ثوب المحامد، وأعلن من نبله ما كان مستترا عن الغائب والشاهد، وأظهر إعزازه وتطوُّله، بما كان من تذلُّلِه له، وجثوِّه بين يديه، متنصلا إليه، ملحا في مسألته، كالعبد المعترف بزلته، يبذل له من نفسه الصبر، ويعطيه التوبة إلى آخر الدهر.
فياويح معتذر أسلكته في مضايق الذل عجلته !! وألبسته ثوب الخضوع والاستكانة هفوته، وأعلنت لصاحبه عليه يداً، أكسبته حمدا ما كان الأبد أبدا، ولَرُبَّ مغتبطٍ بمنال شريف الثناء، لولا ما لا يأمنه من قلة الاغتفار للأذى، لَرَغِب إلى الله فيه في كل صباح ومساء، لِِتَعظُمَ باحتماله عند الناس حظوتُه، وتكبر عندهم منزلتُه، ومن نزغت به النزغات فيما بينه، وبين صنوٍ له، كان بمودته ضنينا، وله على ملمات دهره معينا، فعزم على مقاطعته، وباينه مباينة أهل عداوته، وحاول به الغدر والمكر ليقطع من أسبابهأسبابَه، وفجع به أحبابه، ثم لم يدفع غضبه بالرضى، وصدوده بالوفاء، ونزغة الشيطان بالحياء، ويرجع إلى ما هو به أولى، من محض الصفاء، وخالص الإخاء، ويميز ما مُنِي به من الأمور المؤلمات، وما كان قد أضحك به سنه وأطال به سروره في الليالي الخاليات، فإذا أوضح له التمييزُ تطاولَ الحسنات على السيئات، فأداسها بقدمه، ولم يصفح عن صنوه وعن جُرمه، فليس من أهل الحِكَم، ولا السامين إلى مراتب الهمم، وعما قليل سَيَئُول إلى الندم، إذا تحاماه الإخوان، وطرقَه الزمان، بما ليس له عليه أعوان .(2/198)

125 / 201
ع
En
A+
A-