[مؤهلات القيادة]
ومن أحب أن تخضع له غُلبُ الرقاب، ويقل في طاعته الارتياب، ويُنتَهى عند أمره ونهيه، ويقتدى برأيه، فليأصر نفسه من ذلك على ما يريده من غيره، فإن انقادت لأمره، وازدجرت عند زجره، فليضمم كفه من غيره، على إنفاذ أمره. لأن تهذيب المرء بطريقته، يدعو إلى طاعته، والمقصر عن طلب منفعته تزل موعظته من القلوب، زلول القطر من الصفوان الصليب، فأَوقِعوا يا بني الموعظة بقلوبكم.
فيا أيها المبتغي الدرك في العاجل، والفوز في الآجل، اجعل لك من نفسك موعدا، تحظ به اليوم وتفز به غدا، بصدق لا يشاب بالتفنيد، ورجاء الموعود وخوف الوعيد، واسمُ إلى ماأحببت من ذلك بالعقل العتيد، والرأي السديد، وأنا سفيرك فيه بالدرك لما تريد‍‍‍‍. وإنما أعجز الطلابَ ما إليه يسمون، تعسفُهم السبيل التي فيها عن القصد يجورون، فلم يدركوا ما طلبوا، ولم ينالوا ما أحبوا، فعن مواردهم يا بني فازدجروا، وآثار آبائكم فاتبعوا.
إياك أن تستشهد على نفسك غير معرفتك بها، ولا تقبل من غيرك تزكيتها، بما يكذبه فعلك، ويحيط بضد تزكية المزكي علمك. فإذا توسطت علانيتك، وصحت سريرتك، فتيقن بصدقِ مَن أطراك بما فيك، ولا يبهجنك الثناء من المضطر إليك، ولا يَسفَه بحلمك مُملِق مَذِق، ولا من يستبيه معروفك بالتَّملُّق.(2/189)


[مراقبة النفس]
يا بني: فإن أقل الناس عقلا، وأبينهم جهلا، من صدَّق من سواه، بما تكذبه عيناه، والعقل آمن أمين، وأفضل قرين، فاستأمنه على أحوالك، وجميع خلالك، واعرف ما عرَّفك . وإذا حمدت من أحد مذهبا، فكن لمثله متسببا، ولكل ما تستنكره من غيرك مجتنبا، ولتكثُر من مستتر عيوبك وحشتك، وليقلّ بخفياتها أُنسك، فإن اكتتامها كالمحرض على أمثالها، وإذا امتلأ الإناء انكفأ، وإذا تُنوسخ السِّر فشا.
فكن يا بني: لجميع خلالك متفقدا وداوم على جميل ما به تُعرف، ولا ترض من نفسك بما تستقبح من غيرك إذا انكشف، وأردف جميل غدك، بجميل يومك، ولا تغتر بستر الله عليك، فتتعرض لما يُندِمك عجبا بما يُومَى به إليك، وتظن أن سالف الحسنات، يمحو مؤتنف السيآت.
ومن استصغر سيئته، فيوشك أن تحبط حسنته، ولكل نعمة حاسد يدير بها الدوائر، وبحسبك أن يبصركبالجميل أهل البصائر، فيشغب حاسدك، فيما يرجو أن يهدم به ركنك، ويمعن في الطعن عليك في كل ندي مشهود، ليقبض المتفوِّه فيك بكل أمر محمود، فينقبض انقباض المحسور، ولا يجد السبيل إلى التغيير.
وأحذرك يا بني: البغي، والتهمة والظن، فإنهما ملصقان، بكل إنسان، فلا تجعل لمتهمك إلى تهمتك سبيلا، ولا تكن في غيرك بما تكره أن يُقَال فيك قؤولا، وانظر ما كنت به مما يوجد به السبيل إلى الطعن عليك فعولا، فكن له قاليا وعنه حؤولا، مع نظرك، لنفسك . وإن أردت أن تظفر من الدنيا بزينتها وزخرفها، وعزها وشرفها، وبالبهاء الذي يستنار به في كل مكان، والثناء الذي تسير به الركبان إلى جميع البلدان، فعليك يا بني: بالطاعة التي لا تدفع بالعصيان، والمحبة المنتشرة بكل لسان، فاجعل المروءة لك شعارا، والصيانة لنفسك دثارا، فإن مَن صابرهما، وألزم نفسه الصبر عليهما، تَغَرنَقَ في الغرانيق العُلى، وتمكَّن في قُلَل الشرف القُصا، وإن لم يكن ذا غرض من الدنيا.(2/190)


يا بني: والمروءة غير مبيعة بثمن ربيز، ولا حرز حريز ولا مطلب عزيز، ولو لم يدركها الرآئمون، إلا بجزيل ما يطلبها به الطالبون، لكان ما تعيد وما تبدي، أجزل منه وأوفر في العواقب والبَدِي، ولو كانت لا توجد إلا في أبعد الأمصار، أو في لجج البجار، بالقناطير المقنطرة من الأمور الكبار، لكان الواجب على ذوي العلم بخطرها، والمعرفة بقدرها، التعلقُّ بأغصانها، والبذلُ للنفيس من أثمانها . لكنما اشتملت عليها داياتك، وحَبِيَت عليها مُستكنَّاتك حتى تبثها عنك إذاعتها، وتشيع لك فضيلتها، بأن تمسك عن الأمر المردي، وتعرض عن القبيح الذي لا يغني، وتملك نفسك فيما ملكت، من كبار الأمور وصغارها. تم ربع كتاب المكنون بمنِّ الله وعونه، وحسن توفيقه.(2/191)


[المروءة]
يا بني: ولا تَجُر عن قصد السداد، فيما أنت فاعله وتاركه إلى يوم التناد، وكل ما أوجَبَتْه عليك الحقوق، تأدَّيتَ منه إلى كل عدو وصديق، فافهم، يا بني: ما أصَّلت لك من فروع الأدب والحكمة.
ومن زعم أن المروءة لا تصلح إلا بالمال، فقد أضلَّ في المقال، لأن المروءة قد تنقاد لذوي الإقلال، وتصَّآعب على ذوي الأموال.
وللمال موقع من بعض القلوب، يكاد أن يخرج صاحبه إلى الأمر المعيب، حتى تذهب مروءته، وتغلب عليه حلاوته، فَتنَهَدَّ ذروته، وينطمس كرمه وحريته.
وللمروءة في المال أنصبآء، تتشعب فيه شعبا، وليست المروءة بمعدومة في أحد إذا جد في طلبها، وأتاها من بابها، وليست لها أثمان تباع بها، إنما هو جميلٌ تقولُه، أو خير تفعله، أو معروف تبذله، أو إقصار عن الاكثار إذا لم يكن للكلام موقع، فهذه خلال يكون لك بها في المروءة قدر وموضع، تستوجبه بها، إذا لم يمكنك الاستكثار من غيرها، وكلما ازددت، أدركت ما طلبت، وقد أوضحت لك ما تطلب به المروءة بأحسن الإيضاح، وكنت لك أنصح النُّصاح، فإن أخذتها باللِّين - يا بني - سَلِسَ لك مقودها، وإن غلَّظت شسع عنك عتيدها، وصار نحسا عليك سعودها، فأَسعِد الأدب يا بني بالحكمة.(2/192)


[الحسد]
وإياك والحسد فإن للحسد نفرة على صاحبه مضرة، فأبرده عند اضطرام تسعُّره، بكثرة التبكيت، وتعريفه صغر صاحبه الممقوت.
يا بني فإن الحاسد لا يدرك في حسده نقيرا، ولو أزيح عن المحسود ما حسده عليه لم يظفر منه قطميرا، وليس من أحد من المخلوقين إلا وعليه من الله نعمة ظاهرة أو مكتتمة، أصناف مقتسمة، صغير ما يولي الله العبد منها ويبليه، ويهب له ويعطيه، منصحته، وطول عافيته، وما يصرف عنه من البلوى، خير له من ما بين الأرض والسماء. يا بني: وكم من ذي نعمة متجددة، يحسده مَن دونه على نعمة منتكِّدة، ولو أشعر نفسه ما يجب عليه من شكر المنعم، كان ذلك أزيد للنعم وأصرف للمُلِمّ.
وفي الحسد ست خصال:
* طول الاغتمام بما لا يجدي.
* وكثرة الاهتمام بما لا يغني.
* وتكدير المعاش.
* والخساسة عند الأخيار والأوباش.
* وحرقة القلب.
* ومضآدة الرب.
واعلم يا بني: أن البغي دآءٌ لا دوآء له، فمن كثر في المحظوظة تشكُّكه، طال في البغي محكُّه، والبغي فرع الحسد الأعظم، وبه تحل النقم، وتزلزل القدم، والباغي مخذول، مفلول، والمبغي عليه بالخَبَرِ عن الله مؤيد بتعجيل النصرة، في الدنيا والآخرة، فإياك والبغي أن تلهج به فتكون صريعه الذي لا ينتشع، وقتيله الذي لا يمتنع.(2/193)

124 / 201
ع
En
A+
A-