[صفات العالم الرباني]
واطلعت على ذلك بخصال أُوتيتها، وأُخر تجنبتها، فأما اللواتي أوتيت فذكاة الفطنة، وقلة المشآحة في المحنة، والاصغآء لأهل الإفتنان، والقبول من ذوي الأسنان، وكثرة الاقتباس من أُولِي الحِكم والأذهان، والزهادة في الزائل الفانِ، وصحة الناحية، وتكافئ السريرة والعلانية، وسلامة القلب، وحضور اللب، فافهموا يا بني.
وأما اللواتي اجتنبتها، فمهازلة الحمقاء، ومشاحنة الأدباء، وترك ما تَشْرَهُ إليه النفس من عرض الدنيا، والمكاثرة والحقد، والظغن والحسد، والاسترزاء للحُّر والعبد، والمماكسة فيما يكسب الحمد.
يا بني فبعض هذه الخصال طُبِعتُ عليه بالتركيب، وبعضها استعنت عليه بقبول تأديب الأديب، والتمثل بالأريب اللبيب، مع رغبةٍ حداني عليها طلب الازدياد، مما أرجو به النجاة في المعاد، والزلفة يوم التَّناد .(2/184)
[فضائل الأعمال]
فلم أرَ مما أتاه الله العبد شيئا أفضل من التقوى، ولا أنجعفي العقبى من السُّلوّ عن الدنيا، وبيع ما يزول بما يبقى، ورأيت خير ما ينشأ مع المرء العقل المولود، والمذهب المحمود، والفهم العتيد، وكمح النفس عن الشهوات، وقصرها عما تدعو إليه من المهلكات.
يا بني فمن ظفر بهذه الخصال ثم عرف فضلها، وسلك بنفسه سبيلها، فاز بالظفر، وأَمِنَ مِن الغِيَر، ولم يكثر على الفائت تأسُّفه، وقلَّ عند النوازل تأفُّفه، وأبصر ما بين يديه، ولم تُنكِصه الشبهات على عقبيه، ومنلم يَقُده الفهم إلى العقل، زلَّ في شبهات الجهل، ومن لم يُلطِف النظر في غوامض الأفطان، كاد أن يدهمه الجديدان، ومَن كثرت حيرته، ملكته شهوته، وأَرْدَته غِرته، ونظره عدوه بعين الاستقلال، واستزراه في جميع الأحوال.(2/185)
[صفات الحكيم]
يا بني: ولَخيرُ خصال المرء أن يكون على خلاله مستشرفا ولأَوَدِه مُثَقِّفا، بما يكون له من غيره متعرَّفا، من جميل يُومَىُء به إليه، أو مذمومِ خليقةٍ يُطعن من أجلها عليه.
يا بني: فكل من لم يفصل بالتمييز ما يعنيه من زمنه، ويحذر مضلات فِتَنِه، ويدخر لنفسه من جِدَتِه، ما يحمد غِبَّه في عاقبته، ويختر الزيادة على النقصان، والربح على الخسران، فهو كالمآص لثدي أمه، المخدجقبل تَمِّه.
يا بني: الزمان أنصح المستنصحين، وأرشد المسترشدين، وبحسب مَن صحبه، أن يعرف تَغلُّبه، ويقفو آثاره، ويتصفح أخباره، ويسير لكل حقبة بسيرتها، ويلبس لها أخصف لبستها، حتى تستوري نار زنده، وتستحكم قوى معتقده، وتتحصحص له طبقات دهره، ما مُدَّ له المهل في عمره، ثم لا يغتر بساعات الليل والنهار، ولا يسهو سهوَ مَن صحبَ الدهر بغير الاختبار، ولا يلهو عن مصلحته كأهل الاغترار، فإذا داوم على ذلك فقد كملت خصاله، وأحاطت بالجميل أفعاله.
يا بني: ولو أن العاقل ساير الأيام طول حياته بغير الإستحكام، والنقض والإبرام، لم يكن إلا كالصبي في مهده، المدخول في خَلَدِه، لأن العاقل الذاهلهو الخائض في بحار الظُّلم، والمرتطم في الخزاية مع المرتطم، والمعرفة أسطع نورا من المقباس، وأجلى للقلوب من الهندوان للنحاس.(2/186)
[صفات الغافل]
يا بني: ومن أعجب العجائب، ذو شيبةمرتدٍ بالنوآئب، متسربل بالمصائب، يستنكر ريبَ التصاريف، ويفجر أمامه بالتسويف، وذلك لضعف نحيرته، ونسيانه لما يتصرف من أزمنته، وكثرة سهوه وغفلته، عما قد أفهمته خبرته، وانتظمته تجربته. ولو - غُيِّب عنالعاقل اللبيب، كل أمر عجيب، مما فُطِر عليه المفطورون، وقصر عن الإحاطة بخبره العالمون - لكان فيما طبع عليه في ذات نفسه، وما يمر به في يومه وأمسه، من الفقر والغناء، والسرآء والضرآء، والشدة والرخاء، والأخذ والإعطاء، والبذل والإكداءوكثرة السكوت، وطول الصموت، والاكثار في المنطق، والهدوءوسرعة القلق، والجد والهزل، وغلبة الجهل على العقل - له أشغلُ شاغل عن الفكرة في خلائق الانسان، وتضآد ما يختلف فيه من الجهل والعرفان، فالموموقمنها معروف، والمقلي منها مشفوف. فمَن جنح إلى الأقل، كبحواستوحل، وذم غِبَّ المصدر، وكان من أمره على خطر، وأندمته آخريته، لما قد دلتهعلى علمه أوَّلِيَّته، وليس بحكيم، مَن مال إلى الأمر المذموم، والخيلاء بالفضل، مجانبٌ لسبيل العقل. ومن جعل غيره لعينه نصبا، وأظهر على من سواه في شيء من أفعاله عتبا، وكان الذي فيه لطالب عثرته أعيب، كان الواجب عليه أن يكون على نفسه أعتب، لأن من استنكر أمرا من غيره، يرضى في نفسه بمثله، فقد دل على جهله، ومن سها عما يعنيه، كان مالا يعنيه أجدر أن لا يواتيه.
فافهموا يا بني: ما عبرته لكم، وأوضحته من شأن زمانكم.(2/187)
[صفات الأحمق]
وإن من المنكرات، فيمن يسمنفسه بميسم الخيرات، أن يضرب بطرفه صاعدا، ويكون على غيره واجدا، ولزناده زاندا، كأنه قد تهذب من الأدناس، وأَمِن مِنمعيبة الناس، واستقام على سوق الزيادة للمستزيد، أَوْ ما عرف المعدوم من الموجود، والحاضر من المفقود، والخير من الشر، والنفع من الضر، والحَرَّ من القُر، حيث سلك في أحشائه، واتصل بحوآسه وأجزآئه، ثم أَدَبَّه الأركان إلى الأركان، والروح إلى الجثمان، ثم صرفته تلك العوارض الخاطرة، والنوازل السائرة، فاستفزته إلى السخط مرة، وإلى الرضى أخرى، فأسرف في الخلتين، ومال عن النجدين، فأين مستقر القديم منه، لم يدرأ به عنه، النوازل المُمِضَّة، والآفات العارضة، ويستدعِ لنفسه بدرئه لذلك عاجل السلوة، ويَنْفِ عنها بوادر الشقوة، ويعاود ما يديم له السرور، ويدفع عنه المحذور، ولو ألهم نفسه أحسن ما يُلْهَم، لزاح عنه خواطر الهمم، ولم يعدم محمود العاقبة وعلو الذِّكر في الفئام، والصوت الرفيع في محافل الأقوام، ولأقصر عن شقشقته، وشهد بالفضل لمزايل طريقته، ولكنه لم يحم أَنْفَه، وقل عن مزايلة ما تهواه نفسه أَنَفُه، فامتشجت الأدواء في آرابه، واستلبته رصين آدابه، فابتغى السلامة من غير جهتها، والراحة بعد فوتها .
كلا لن يكون فرع من غير أصل، ولا جود إلا ببذل، ولا زكاء مخلوق إلا بفضل، يُجَشِّم فيه نفسه المجهود، ويستدعى به لها الثناء المحمود، ويجنبها الموبقات، والشهوات المُردِيات، وليس من نفس إلا وهي تراود صاحبها على الهوى، وتدعوه إلى موارد الردى، فمن أعطاها زمامه، أركبته ردعه، ومن منعها ما تهوى، فاز بالرغبى. ففي هذا لكم يا بني: بيانٌ ومعتبرٌ، ومن لم يستظهر، بالحزم على مذآقالأخلاق ودنآءتها، ويزجر النفس عن شهواتها، قصر دون رميته، ولم يدرك الثناء الذي سما إليه بأمنيته.(2/188)