وفي ذلك أيضا ما أمر الله، به سبحانه من قتال البغاة، مجتمع عليه، غير مختلف فيه، في كل قراءة مدنية أو عراقية، وغربية كانت القراءة أو شرقية، إذ يقول سبحانه:?وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءوا فأصلحوا بينهما بالعدل، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين? [الحجرات:9].
ثم قال سبحانه مدحا للمنتصرين من الباغين، وترغيبا في الانتصار في البغي للمؤمنين، ?والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ? [الشورى:39]. فمن أظلم وأبغى، ممن تجبر وطغى، فخص المؤمنين بغيُه وطُغاه، وعَمَّت الأرضَ فتنته وَبلاه ؟! لا مَنْ إن عقل من يسمع نداء كتاب الله بتعريفه!! وقام لله بما له عليه في ذلك من تكليفه.
وفي ذلك أيضاً ما حكم الله سبحانه به في القتل على الفتنة وكبائر المظلمة، وما أذن به تبارك وتعالى من محاربة أَكَلة الربا من هذه الأمة، فقال في الفتنة :?وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ? [الأنفال:39 – 40]. والفتنة: فهي تعذيب أولياء الله بالضرب وغيره من أنواع العذاب والبلاء، وما كانت قريش تعذب به في جاهليتها مَن كان فيها من البررة والأتقياء.
وقال سبحانه فيما آذن به، أكلة الربا من حربه: ?يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله? [البقرة: 278 - 279]. عزماً منه سبحانه على حربهم بأثبت الثبوت، وحكماً لازما فيهم لكل مؤمن حتى يتوفاه الموت، لا عذر لأحد من الخلق في تبديله، ولا اختلاف في الحكم بين تنزيله وتأويله.(2/179)


وقال سبحانه فيما أذن به من قتل المعتدين من عباده، والساعين بالفساد في أرضه وبلاده، والمحاربين له تبارك وتعالى ولرسوله من خلقه، ولا محاربة له سبحانه ولا لرسوله ولا فساد أعظم من تعطيل حقه، والإعراض عن نهيه وأمره، وإقامة المتجبر على تجبُّره: ?إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم? [المائدة:33].
وقال سبحانه:?من أجل ذلك كتبنا على بني إسرآئيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا? [المائدة:32]. فأحل سبحانه من قتل الأنفس بفسادها واعتدائها، مثل الذي أحل من القتل بالقصاص بينها في دمائها.
وقال أيضا سبحانه وتعالى، فيما جعل من القصاص بين القتلى:?يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم…? [البقرة:178] الآية.
فهذه وجوه ما أحل الله به الدماء، وأوجب به على فعله البرآءة والبغضاء، وكل وجه - والحمد لله - من هذه الوجوه فغير صاحبه، لا ينكر وجها منها مرتاب وإن عظمت بليته في ارتيابه.
وقد قال غيرنا من مرتابي هذه العوآم الغوية، وأعوان المعتدين من ظلمة بني أمية: لا يحل قتل من قال لا إله إلا الله، وكابر ما بيَّنا كله من ما حكم به الله.(2/180)


واليهود تقول: لا إله إلا الله، وتؤمن ببعض كتاب الله، كما قال سبحانه:?أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون? [البقرة:85]. فخزي الدنيا أن يُقوِّي مسكنتهم وذلهم، وقتالهم إن امتنعوا من الذل وقتلهم، فَحَكَم الله سبحانه بقتلهم، ودمَّرهم بفسادهم وكفرهم، والإعراض عن بعض حقه، وتكبرهم على المرسلين من خلقه، فقال سبحانه: ?قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون? [التوبة:29]. ولقتلهم الآمرين بالقسط من الناس أوجب لهم تبارك وتعالى في أن من صد عن سبيل الله، وأفسد على أولياء الله دعوتهم إلى الله فهو من أعدى الأعداء لله، وأعظمهم عند الله عذابا وتنكيلا، وأوجبهم في دين الله قتلا وتقتيلا.
قال الله سبحانه :?الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون? [النحل:88]. فما ذكر سبحانه من صدوا فهو..... (لم يكن عليه السلام أتم الكتاب، وهذا حده الذي بلغ فيه إليه، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا).(2/181)


المكنون
[دعاء]
بسم الله الرحمن الرحيم
أستعصمُ الله بعصمته التي لا تُهتك، وأسترشده إلى السبيل التي ينجو بها من الردى مَن هلك، وأستوهبه التوفيق لهدايته، والحظ الوافر من طاعته، وأرغب إليه في إلهام حكمته، واجتناب معصيته.(2/182)


[توحيد الله]
إن الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا كفؤ له موجود، ولا والد ولا مولود، تعالى من أن يَتَخَوَّنه أبد، أو يقع عليه عدد، فطر الأرض والسماء، وابتدع الأشياء، وأنشأ المخلوقين إنشآءً، بلا معين يشاركه في التدبير، ولا ظهير يؤازره على ما أبرم من الأمور، ولم يمسسه في ذلك كلال، ولم يتخرمه نصبٌ ولا زوال، ولم تَتَوَهَّقه عن محكم الصنعة العوائق، ولم يشتبه عليه ما أتقنه علمه السابق، بل نفذ بمشيئته ما أبرم، ومضى في خليقته ما علم، بلا اختلاج اشتبهت عليه فيه الآراء، ولا تَوَهُّم تفاوتت عليه فيه الأشياء، فتعالى عما يقول فيه الظالمون، وعز وتقدس مما يتفوَّه به العادلون، جعل الأنام شعوبا وقبائل متعارفين، وفيما تنازعهم إليه الأنفس غير مؤتلفين، مختلفة هممهم، لا يشتبه تصرفهم، وكل يعمل على شاكلته، ويسلك سبيل طبقته.
والعقول حظوظ متقسمة، والأخلاق غرائز مستحكمة، فالحازم مغتبط بما أُلهِم، جَذِلٌ بما قُسِم، والمفرِّط متأسٍّ على ما حُرِم، يقرع سنَّه من الندم، فإن قهر نفسه على تَعَوُّضِ ما فرط، أورده صغرُ الهمم في أعظم الورط، وإن تمادى في التقصير، دحض دحضة الحسير.
وإني لما زايلت قلة الآثام، وخضت في أفانين الكلام، وناسمت كثيرا من علماء الأنام، أطللت على مكنون من العلم جسيم، واستدللت على نبأٍ من ضمائر القلوب عظيم، لأن صحيح الجهر، يدل على كثير من مكنون السر.(2/183)

122 / 201
ع
En
A+
A-