وقال سبحانه:?ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل?[الشورى:41]، ثم أخبر سبحانه على من جعل السبيل بالقتل والتقتيل، فقال سبحانه:?إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم? [الشورى:42]. وقال سبحانه:?لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا? [الأحزاب:60 - 62].
فَصَنَّفَ سبحانه من أحلَّ قتله وتقتيله أصنافا ثلاثة مختلفة، لا يشتبه اختلافهم على من وهبه الله أدنى معرفة.(2/174)
والمنافقون منهم الذين يقولون من التقوى ما لا يفعلون، والذين بسوء فعلهم يُكَذِّبون مايقولون، ويَعِدُون الله فيما يَعِدُونه، ثم يخلفون ما وعدوه ويَكْذِبُونه، كما قال سبحانه :?ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب، الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم? [التوبة:75 – 79]. وكما قال عز وجل :?الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون، الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين? [آل عمران: 167 – 168]. وكما قال سبحانه :?ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون، أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ولهم عذاب مهين، لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون? [المجادلة:14 – 19].(2/175)
وما دل سبحانه من هذه الصفات كلها وغيرها على المنافقين، فموجود اليوم كثير في من يتسمى كذبا وظلما بأسماء المتقين، وهذا فهو معنى النفاق المعروف في لسان العرب وكلامها، وما يدور من معلوم اللسان فيه بين خوآصها وعوآمها، لا يجهله منها صغيرٌ طفل، ولا كبيرٌ كهل، ولو كان النفاق ليس إلا ما زعم بعض الناس من إسرار الشرك وإعلان التوحيد والإقرار، لما جاز أن يقال :?هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان?، وكيف يقول هم أقرب إليه ؟ وهم فيه وعليه ! هذا مالا يصلح توهُّمُه في الكتاب لتناقضه واختلافه ! وميله عن الحكمة وانصرافه ! وكيف يصح أن لا يكون النفاق إلا إسرار الشرك بالله ؟! والله يقول سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى أهله :?يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير? [التوبة: 73، والتحريم:9]. فكيف يأمره بجهادهم على ما طووه من شركهم سرا ؟! وهو لا يحيط صلى الله عليه بكثير من علانيتهم خبرا. فكيف يأمره بجهادهم على سر القلوب ؟! الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب!! وكل من قال بأن النفاق إسرار الشرك بالله، غير موجب على نفسه لجهاد المسرِّين لشركهم بالله، دون أن يعلنوا من الشرك ما أسروا، ثم أن يمتنعوا من شركهم ويتبرُّوا، وفي هذا عليهم حجة لعدوهم في الجهل بالنفاق قاطعة، بينة مضيئة فيما قلنا به من أن النفاق فعلُ علانيةٍ لهم مما قالوا إن أنصفوا مانعة.(2/176)
والصنف الثاني منهم: الذين في قلوبهم مرض وهو شكوك الإرتياب، فهم الذين كانوا يتولون كَفَرَةَ أهل الكتاب، كما قال سبحانه :?يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين? [المائدة:51 – 52]. فجعلهم تبارك وتعالى بتولِّيهم لهم منهم، وأخبر - بالعلة التي بها من مرض قلوبهم تولوهم- عنهم، ولو كان معها غيرها لذَكَرَه، ولأَبانه منهم علانية وشَهَرَه، وإذا كانوا عند الله منهم، لزمهم عنده تبارك وتعالى ما لزمهم، وكان حكم المؤمنين ومن تولاهم حكمَهم عليهم، وسيرتهم في الجهاد سيرتَهم فيهم.
والصنف الثالث منهم: أهل إرجاف وعبث، وأذى للمؤمنين والمؤمنات ورفث، كانت تُرجف بمكذوب الأحاديث وترهج، ليس لها دين ولا ورع ولا تحرج، أَلا ولَمَّا كان لها في الإرجاف من الشغل به عنها، ويعنيها به لما أسخط الله منها، كانت تكثر فيه، وتجتمع عليه.
وهذه الفرقة فبقيتها بعدُ بالمدينة كثيرة معروفة، وبكل ما وصفها الله به من الإرجاف والعبث والرفث فموصوفة، تشاهد به مشاهدها، وتعمر به مساجدها، والله المستعان.
وكل هذه الفرق الثلاث جميعا، فقد أمر الله نبيه عليه السلام بقتلهم إن لم ينتهوا معا.(2/177)
وقال الله سبحانه فيما أمر به المؤمنين من قتال من قاتلهم وقَتْلِهم لهم بحيث ثقفوهم، وإخراجهم إياهم من حيث أخرجوهم، ?وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم? [البقرة : 190 – 192]. فأوجب عليهم قتالهم وقتلهم، بما كان من قتال الظالمين لهم. ألا ترى كيف يقول سبحانه:?ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين?. فجعل قتالهم وإن كانوا على شركهم عند المسجد الحرام مُحرَّما، ثم أحله لهم إن قاتلوهم عنده وحكم عليهم بقتالهم حُكما حتما.
وقال سبحانه فيما أذن به من قتل المعتدين باعتدائهم، وبسط أيدي المؤمنين للعدوان من سفك دمائهم، ?فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين، وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين? [البقرة:194 – 195]. فأمرهم سبحانه للعدوان لا لغيره بقتالهم، ونهاهم عن أن يُلقوا بأيديهم إلى التهلكة باستسلامهم لهم، وأمرهم بالإنفاق في جهادهمَ، سبحانه والإحسان، وأخبرهم أنهم إن لم يفعلوا فقد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة لأهل العدوان. وصدق الله العزيز الحكيم الأعلى، الذي لا يرضى لأوليائه أن يكونوا أذلاء، والذي لم يزل سبحانه يحوط العز لهم حوطَ العليم الخبير، وينصرهم عند القيام بأمره نصر العزيز القدير، وأي تهلكة أهلكُ لهم ؟! من استسلامهم لمن يريد قتلهم !!(2/178)