وأي الأقوال التي وصفنا قاله قائل، أو جَهِلَه وإن لم يقل به جاهل، فهو فيه مثبت مع الله لغيره، قال بإنكاره فيه أو تجويره، ألا ترى أنه إن أنكره فقد مثَّله بمنكَر الأمور، أو جوَّره فقد أشرك بينه وبين أهل الجور، أو جَهِلَه عز وجل فقد مثَّله بمجهول، أو تحيَّر فيه فقد شبَّهه بمتحيَّر فيه غير معقول، أو زعم أن له صاحبة أو ولدا، فقد أثبت بالاضطرار أنه لم يكن واحدا ولا فردا، وإذا لم يثبت له وحدانية الأولية، فقد ثبت معه اضطرارا غيره في الأزلية، وذلك فهو معنى الشرك غير شك، ولذلك سمى الله هذه الفِرَق كلها باسم الشرك، وحكم عليها بحكمه ليعلم أولوا الألباب والنُّهى، أن باشتباههم كان حكم الله فيهم مشتبها.
فاسمع لما قال فيما أوجب من قتلهم وقتالهم، وحكم به سبحانه من سبآئهم وتغنُّم أموالهم، وأوجب على المؤمنين فيهم من البرآة، ونهاهم عنه لهم من الموالاة، وحرَّم عليهم من مناكحهم، ونهاهم عنه من أكل ذبائحهم، فإني سأجمع ذلك لك إن شاء الله كله، وأُبيِّن لكم ما ذكر الله في ذلك أجمع وأفصِّله، بآيات مُسمِعات، و أحكام متتابعات، كراهية للتكثير عليك في القول، واكتفآء لك بتفصيلهن من الإكثار في كل علم مجهول.(2/169)
قال الله عز وجل:?برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين، وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم، إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين، فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ? [التوبة:1 – 5].
وقال سبحانه :?إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين? [التوبة:36]. يريد بقوله تبارك وتعالى:?كآفة? عآمة كما يقاتلونكم عامة، لا يختصون منكم خآصة.
وقال سبحانه :?فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها? [محمد:4].
وقال سبحانه بعد الدماء، فيما أحل من الغنيمة والسباء:?ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دُولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب? [الحشر:7]. ولا يكون فيئا، إلا ما كان غنيمة أوسباء، لقول الله عز وجل:?يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ? [الأحزاب:50]. فجعل ما أفاء الله عليه منهن ملك يمينه، وأحلَّهن الله له بالسباء في حكم دينه.(2/170)
وقال سبحانه:?واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير? [الأنفال:41].
وقال فيما أوجب من البرآءة على المؤمنين فيهم، ونهاهم عنه من تولِّيهم:?لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير? [آل عمران: 28]. فنهاهم عز وجل عن ولايتهم سرا وعلانية، وحرَّم عليهم ولايتهم لهم خفية كانت أو بادية، بقوله في هذه الآية الثانية :?إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير? [آل عمران:29].
وقال سبحانه:?يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين? [المائدة:51]. فجعلهم بموالاتهم لهم منهم، وأزال اسم الايمان بموالاتهم لهم عنهم.(2/171)
ثم أخبر سبحانه بحال من سارع فيهم، ودل بما في قلوبهم من المرض عليهم، فقال :?فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين? [المائدة:56]. فأبان سبحانه أن ولايتهم كانت لهم ليست إلا لخوف الدوائر، وأن ذلك لم يكن منهم لهم إلا لما في نفوسهم من مرض الضمائر. فمتى ما وُجِدَ لهم أحدٌ ممن يدعي الاسلام متوليا، لم يكن في الدين أبدا كما قال الله إلا مريضا قلبه دَوِيًّا، ومتى ما كان قلب من يدعي الاسلام مريضا مدخولا، كان لما قطع الله من ولايتهم وصولا، وفي كون كل واحد منهما كون صاحبه، وكل سبب من الأمرين فموصول بأسبابه، فلا يوالي من أشرك بالله أبدا إلا من مرض في الدنيا قلبه بالشك، ولا يمرض قلب امرئ أبدا في دينه ويقينه إلا لم يبال مَن وَالَى من أهل الكفر بالله والشرك.
وفي ذلك ما يقول الله سبحانه :?لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أوإخوانهم أوعشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله إلا إن حزب الله هم المفلحون? [المجادلة:22].
وقال تبارك وتعالى فيما حرم من مناكحتهم :?يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولاهم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر? [الممتحنة:10].(2/172)
وقال سبحانه:?ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون? [البقرة:221]. فهذا في بيان ما حرم الله تبارك وتعالى من مناكحتهم.
وقال سبحانه فيما حرَّم من أكل ذبائحهم :?ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون? [الأنعام:121].
وقال سبحانه:?حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به? [المائدة:5]، والإهلال به لغير الله، ذِكْرُه وتسميته وانتحاره وذبحه لسوى الله.
وقال سبحانه :?وما ذبح على النصب? [المائدة:3]. وما ذبح عليها، فتأويله ما ذبح لها، والنُّصب فحجارة كانوا ينصبونها ويتخذونها مذابح ومناحر يذبحون عندها ولها ما يذبحون، وينحرون عندها من نحائرهم ما ينحرون، فحرَّم الله ما ذُبح من الذبائح عندها، ونُحِرَ من النحائر لها.
قال: ويحل الدم بعد ذلك دون السباء، ولايحرم مناكحة النساء، لخلال أُخر من الكفر والعدوان، يعرفها كل من وهبه الله يسيرا من الفهم فيما نزل من القرآن:
منها: ظلم الظالمين، وما بيَّن سبحانه من عدوان المعتدين، فقال سبحانه :?أذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير? [الحج:39]. فأذن سبحانه للمظلومين بقتال الظالمين لظلمهم إياهم، وأذن للمظلومين – بظلم الظالمين - لا بغيره في أن يسفكوا دماءهم.(2/173)