وكذلك ما جرت عليه مُدَد الأزمان والدهور، غيَّرته تغييرها لغيره من الأمور، كما قال الله سبحانه: ? هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ? [الحديد:3]. فأوَّليَّته سبحانه آخريته، وباطنيته ظاهريته، لا يختلف من ذلك ما وُصِفَ به، كما لا يختلف سبحانه في نفسه.
وكذلك أسماؤه كلها الحسنى، وأمثاله كلها العلى، فأسماءٌ لا تتناهى مرسلة مطلقة، مجتمعة كلها فيه سبحانه لا مفترقة، ليس لاسم منها حد محظور، ولا لمثل منها حصار محصور، فيكون الحد حينئذ للمحدود ثانيا، وما حُضر بالحد من المحدود متناهيا، ولكنه كما قال سبحانه: ? فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ? [مريم: 65]، ولا لن يوجد له سمي إذ لا تجد الألباب له كفيا، كقوله تبارك وتعالى: ? وله المثل الأعلى ? [النور: 27]، وكذلك هو سبحانه إذ لا تجد له الألباب مثلا، وما قلنا به في هذا من دلالة التفاضل، فموجود والحمد لله لا ينكره عقل عاقل، ومضطرةٌ الألبابٌ إلى علمه لا يدفعه إلا متجاهل، مع ما لا نأتي عليه وإن بلغ تعديدنا، ولا نستقصيه وإن جهد تحديدنا، من لطيف شواهد معرفة الله سبحانه وجلائلها، وما جعل الله من شواهد المعرفة به ودلائلها.
وكفى بما ذكرنا لمعرفة الله عز وجل علما منيفا شامخا، وعلما بالله يقينا في النفوس ثابتا راسخا، لا يدفعه إلا بمكابرة للعقول ملحد، ولا يصدف عن الاقرار به إلا معاند مَلِدٌ، والحمد لله الذي لا يهتدي للخير أبداً إلا من هداه، ولا يصيب الرشد إلا مَن آتاه إياه، كما قال سبحانه: ? ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ? [الأنبياء: 51]. وقال: ? وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ? [الأنعام: 75].(1/56)
[الايمان قول وعمل واعتقاد]
فقلب الايمان من كل عصيان اليقين بالله وبعلمه، وإبراء الضمائر من تَوَهُّمه، فإنه لا تجول أوهام المتوهِّم، إلا في كل ذي صورة وتَجَسُّم، ومن توهم الله جسما، فلم يصب بالله علما، ولم يقارب من اليقين بالله شيئا، ولذلك كان حشو هذه العامة من اليقين بالله بُراء، ولما التبس بقلوبهم وأنفسهم من ذلك واعتقاده، اقتادهم وليُّهم إبليس بالمعصية في قياده، فحثوا له بالعصيان لله سراعاً عَنَقا، وآثروا رضاه على رضى الله إذ لم يؤمنوا به فِسْقَا، فبدلوا معالم أموره، وعموا عن ضياء نوره، ثُمَّ لم يزدادوا في العمى عن الله إلا تماديا، ولم يجيبوا له إلى الهدى من الهادين إلى الله داعيا، وعدوا إسآءتهم فيما بينهم وبين الله إحساناً، وكفرهم بالله ورسله وكتبه إيماناً، وجعلوا لله مثل السوء ولهم المثل الأعلى، فتبارك الله عما قالوا به عليه وتعالى، ونسبوا إلى الله سبحانه جور الحكم، وبرأوا أنفسهم من الجور والظلم، وهم بما نسبوا إليه سبحانه من الجور والظلم أولى، وله سبحانه لا لهم المثل الأعلى، ومثل السوء فلهم كما قال سبحانه: وهم كاذبون، ? وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ? [النحل: 62]. وقال سبحانه: ? للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ? [النحل: 60].
ولعمري ما آمن بالآخرة مصدقا، ولا وجد لما حقق الله منها محققا، من أكذب وعدها ووعيدها، وأنكر من جزاء المحسن والمسيء عتيدها، والله يقول سبحانه: ? إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقاً إنَّه يبدأ الخلق ثُمَّ يعيده ليجزيء الذي آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ? [يونس: 4].(1/57)
ويقول سبحانه: ? فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلاَّ الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى، ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذي أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ? [النجم 29-30].
ويقول سبحانه: ? ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ? [النساء 123- 124].
ويقول سبحانه: ? يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاَّ أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما، ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ? [النساء 29-30].
ويقول سبحانه: ? وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً ? [الكهف:29]. وعدا من الله ووعيدا، وجزاء من الله للفريقين عتيدا، لا تكون الآخرة أبداً إلا وهو معها، ومن أنكره ودفعه أنكر الآخرة اضطرارا ودفعها، وله جعلت الآخرة وثبتت، وثبت باقيا معها أبداً ما بقيت، ولو أمكن فناؤه لأمكن فناؤها، وما بقيت الآخرة بقي معها جزاؤها، فبقاءُ كلٍّ بكلٍ معقود، وكلٌ مِن الله فوعدٌ موعود، لا يدخله أبداً كذب ولا خُلفٌ، ولا يزول من أوصاف الله فيه بصدق الوعد وصفٌ.
ولا أكفر بالآخرة وأمرها، وما ذكر الله من بعث الأمم وحشرها، ممن زعم أن الله يحكم يومئذ فيها بغير العدل، فيقضي بين أهلها فيها بغير قضاء الفصل، فيعذب من عذب فيها، بأمور هو حمل المعذَّبَ عليها، حتى لم يجد من ارتكابها بدا، ولا عما ارتكب منها مصداً، وإن عمل ما شاء الله فيها وارتضى، وحكم الله به منها وقضى، عُذِّب بألوان العذاب، وعوقب بأشد العقاب.(1/58)
فوصفوا الله بإخلاف الميعاد، ونسبوا إليه ما تبرأ منه من ظلم العباد، فقال: ? إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما ? [النساء:40]. وقال: ? إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ? [يونس:44]. وقال تبارك وتعالى: ? وما أنا بظلام للعبيد ? [ق:29]. وقال سبحانه فيما قالوا به عليه من إخلافه في الوعد والوعيد: ? وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ? [النساء:122]. وقال سبحانه: ? لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوفها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ? [الزمر:20]. وقال تبارك وتعالى في حكمه يوم القيامة بين الخلق بعدله، وقضائه يومئذ بين العباد بعدل فصله: ? اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب، وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير ? [غافر17-20]. وقال سبحانه: ? هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ? [المرسلات 38-39]. يقول تبارك وتعالى هذا يوم القضاء بالعدل الذي كنتم به تكذبون: ? احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم، وقفوهم إنهم مسئولون، مالكم لا تناصرون ؟! ? [الصافات 22-24]. فلعدله سبحانه في الحكم، وتعاليه عن كل ظلم، وُقِّفُوا فعُرِّفوا، وبعد المسألة صُرفوا، إلى ما استحقوا من الجحيم، واستوجبوا من العذاب الأليم.(1/59)
فاستقبل حشو هذه العامة ما بَيَّن الله من هذا كله بجحده، وجاهروا الله وأولياءه علانية برده، فكلما دعاهم المهتدون ليهتدوا، استكبروا عن الهدى وصدوا، وكلما ذكروهم بالله ليذكروا، أعرضوا عن تذكيرهم بالله وفروا، فكلهم مُصِرٌّ مستكبر، مُولٍّ عن الهدى مُدبِر، كأنهم في ذلك بفعلهم، وما أصروا عليه من جهلهم، قوم نوح إذ يقول فيهم، صلى الله عليه لا عليهم: ? رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلاَّ فرارا، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ? [نوح 5-7]. فكلهم عدو للصادقين على الله مكذب، وفؤاد كل امرئ منهم عن الايمان بالحق منقلب، وذلك إذ لم يؤمنوا به أول مرة، وكانوا به إذ سمعوه عند الله من الكفرة، ألم تسمع إلى قوله سبحانه: ? ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون، ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلاَّ أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ? [الأنعام 110-111]. فقوله سبحانه ? يشاء ? إنما هو خبر عن قدرته عليهم، وقوة سلطانه تبارك وتعالى فيهم، ولو أنه شاء لَمَنعهم من المعصية فكانوا به مؤمنين، إذ كان الايمان عندنا إنما هو أمان من عصيان العاصين، ومن منعه الله من المعصية جبرا فمأمون عصيانه، وإذن كان الاحسان في ذلك المنع إحسان الله لا إحسانه، وكان فيما منع منه من المعصية غير مطيع لله، ولا مستوجب لثواب من الله، إذ مُنع من المعصية بجبر، وحمل على الايمان منه بقسر.(1/60)