ولقد قرأنا مما في أيدي النصارى لعنة الله عليها، في كل ما عندها من أناجيلها: (أن عيسى ابن مريم، لما وجَّه في المدائن والأمم، للدعاء إلى الله حوارييه، قال لا تزودوا معكم زاداً، ولا تحملوا معكم فضة ولا ذهباً، وأي مدينة حللتموها، أو أمة دخلتموها، فلم تقبل منكم، ولم يسمع الحق عنكم، فأقلِّوا بها وفي أهلها مقامكم، وانفضوا من غبارها إذا خرجتم عنها أقدامكم، لكيما تكون شهادة لله عليهم، وحجة باقية من بعدكم فيهم، فخرجوا فكانوا يطوفون في المدائن والقرى، وينشرون أمر الله فيهم نشراً).
ومن مثل ذلك وفيه، ما كان يقول صاحب إنجيلهم صلى الله عليه: ( للسباع مغارٌ، وللطير أوكار، وليس لي مأوى آوي إليه، ولا بيت أستكن فيه ) فأين هذا ومثله ؟! وما كانت عليه أنبياء الله منه ورسله، مِن جوار مَن ظَلَم وفَجَر، وساكن وكثَّر وعمر، لا أين والحمد لله!! والحجة البالغة فلله، ونستعين فيما وجب علينا في ذلك بالله.
فالهجرة أمرها عظيم كبير، وفرضها في كتاب الله مكرر كثير، لا يجهله إلا جهول، ولا ينكره إلا مخذول، إلا أنه قد قَطعَ ذكرَها، وصغَّر قدرَها، وأَمْحَى عهودَها، وحل عقودَها، تحكُّم الناس على الله فيها، وتظاهُرهم بالمخالفة لله عليها.
والمقام مع الظالمين في دارهم محرم، حكم من الله كما ترون أولٌ مقدمٌ، قد جرت به سنة الله قبلكم في الماضين، وسار به من قد مضى قبل رسولكم من المرسلين، صلى الله عليه وعليهم، في الأمم الذين كانوا فيهم.
فكفى بهذا في وجوب الهجرة، وما حرم الله من جوار الظالمين والفجرة، نوراً وبرهاناً، وحجة وبياناً، لمن آثر الله على ما يهوى، ولم يَمِل مع هواه على التقوى.(2/164)


فأما من لا يصبر عما يجمع ديارالظالمين من الشهوة والفكاهات، وما يأوي إليها ويجتمع فيها من المجالس الملهيات، فما أبعده وأصدَّه، وأدفعه وأرَدَّه، للبيان فيما عطَّل من هذه الفريضة وبدَّل، وافترى في خلافها ومضآدَّتِها على الله وتقوَّل، فإلى الله المشتكى من ذلك وهو المستعان، فما بعد بيان الله في ذلك بيان، فيه شفاء لمشتف، ولا إكتفاء من مكتفٍ، وما بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون، ?كذلك حقت كلمات ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون?[يونس: 32 ـ 33].(2/165)


فاتقوا الله في الهجرة أيها الناس، فلا يقطعكم عنها الإلف والإناس، والمعارف والأحباب، والمجالس والأصحاب، والفكاهات والألعاب، والشك فيها والارتياب، فإن الله وملائكته أنسٌ لمن هاجر إليه، وقام لله من الهجرة بما يحب عليه، من كل إلفٍ وأنيس، وصاحبٍ وجليس، ورضى الله أرضى من كل رضى، وفرض الهجرة أوكد الفروض فرضاً، فلا تثقل عليكم الهجرة فإن من أيقن بالمرجع إلى الله والمعاد، خف عليه ثقل كل رشدٍ ورشاد، ومن أيقن بقصر مدته وبقائه، فكان مراقباً لأَجَلِه وانقضائه، لم يغترر بدنياه، ولم يلهه شيء عما أنجاه، وكان أبغض الناس إليه، مَن شَغَلَه عما ينجيه، أباً كان شاغله عن ذلك أو أخاً، ولم يعد شيئاً من دنياه سروراً ولا رخاءً، ولم يرغب فيما هو فيه من الحياة، إلا لما يطلب من النجاة، وكانت الدنيا ونعيمها عنده بلاءً، وما يستحقه الجاهلون منها ثقلاً، وغروراً كلها وكذباً، ولهواً في نفسه ولعباً، كما قال الله سبحانه:?ما الحياة الدنيا إلا لهو ولعبٌ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون?[العنكبوت: 64]، فحياة الدنيا عند من يعقل موت، ودركها وإن أُدرك فوتٌ، وهي كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: (الدنيا سجن المؤمن وبلاؤه، وجنة الكافر ورخاؤه) ليست بدار سرور لمن يعقل ولا أمن، ولكنها دار الفناء ودار الأذى ودار البلايا ودار الحزن، لا يغتر بها إلا مغرور، ولا يأمنها إلا مثبور، ظالم لنفسه جهول.
تم كتاب الهجرة والحمد لله كما هو أهله ومستحقه.
وصلى الله على رسوله الأمين، وأهل بيته الأكرمين، وسلم عليه وعليهم أجمعين.(2/166)


كتاب القتل والقتال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيئين، وعلى أهل بيته الطيبين وسلم.
سُئِل القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه، عما يجب به القتل والقتال، ويحل به عند الله السباء والأموال ؟.
فقال: يحل الدم والمال والسباء، ويوجب البرآءة والعداوة والبغضاء، ويُحرم أكلَ الذبائح، وعقدَ التناكح، الكفرُ الذي جعله اسما واقعا على كل مشآقة أوكبير عصيان، ومخرجا لأهله مما حكم الله به للمؤمنين من اسم الايمان، بخلال كثيرة متفقة في الحكم، متفرقة بما فرق الله به بينها في مخرج الاسم، لها جامع وتفسير، فتفسيرها كثير، وجماعها كلها، وتفسير جميع جُمَلِها، فتشبيه الله عز وجل بشيء من صنعه كله، أو تجويره لا شريك له في شيء من قوله أو فعله.(2/167)


وتفسير هذا الجامع أن يجعل مع الله سبحانه إلها أو آلهة، أو والدا أو ولدا أوصاحبة، أوينسب إليه جورا بعينه أومظلمة، أويزيل عنه من الحِكَمِ كلها حكمة، أو يضيف إليه في شيء من الأشياء كلها جهالة، أو يكذب له صراحا في وعد أو وعيد قالة، أو يضيف إليه سِنة أو نوما، أو وصفا ما كان من أوصاف العجز مذموما، أو ينكره سبحانه وبحمده أو ينكر، شيئا مما وصفناه به من توحيده منكر، أو يرتاب فيه تبارك وتعالى أو يتحيَّر، في شيء مما وصفناه به مرتاب أو متحيِّر، أو يذم له فعلا أوقيلا، أويكذب له تنزيلا، أو يجحد له نبيا مرسلا، أو ينسب إلى غيره من أفعاله فعلا، كنحو ما ينسب - من فعله في الآيات، وما جعل مع الرسل من الأدلة والبينات - إلى السحر والكهانة، والكذب والبطالة، فأي هذه الخلال المفسرة المعدودة، والأمور التي ذكرنا المبينة المحدودة، صار إليه بالكفر صائر، ثم أقام على كفره فيه كافر، وجب قتله وقتاله، وحل سباؤه وماله، ولم تحل منا كحته، ولم تؤكل ذبيحته، وحرمت ولايته على المؤمنين، وكان حكمه حكم المشركين، لأنه معتقدٌ بتشبيهه من الشرك بالله لما اعتقدوا، ومعتمد بتمثيله إياه عز وجل بغيره في أي الأقوال التي حددنا لما اعتمدوا، لأن الشرك نفسه إنما هو تثبيت إلهين أوأكثر، والقول بأن مع الله إلها آخر.(2/168)

119 / 201
ع
En
A+
A-