وقال سبحانه: ?فلما ترآءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون?[الشعراء: 61]، يعني سبحانه: جماعة بني إسرائيل وجماعة القوم الظالمين، فلم يمنعهم هول الرؤية والمعاينة، وما طلبوا عند ذلك من الهلكة والمنازلة، عن النفاذ على ما أمروا به من المهاجرة، منطلقين بكليتهم، ونسائهم وصبيتهم، لا يلتفتون إلى شيء قد خرجوا ليلاً سارين، لظفر فرعون وجنوده خائفين محاذرين . فهذه - هديتم - عزائم الموقنين، بالمرجع إلى رب العالمين، فأما من ضَجَّعَه تربُّصه وارتقابه، وصرعه شكه وارتيابه، فما أبعده في الهجرة عن عزمهم !! وما صاروا به إليها من علمهم.
وقال موسى صلى الله عليه، إذ عصته بنوا إسرائيل فيما عهد الله إليهم وإليه، من دخول الأرض المقدسة، وما اعتلُّوا به عليه من خوفهم لمن فيها من الجبابرة المُتعفرتة: ?رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين?[المائدة: 25]، سأل الله صلى الله عليه أن يفرق بينه وبينهم، إذْ أجمعوا جميعاً كلهم على ما يسخط الله منهم، إكباراً منه صلى الله عليه للمقام مع معصية الله فيهم، فكيف يُجَاوَرُ العاصون في أكثر الأحوال أُو يُصَار إليهم ؟!
وفي ذلك ومثله، و[ما] رضي الله به من أهله، ما يقول الله سبحانه:?وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً?[النساء: 75]، فكفى بهذا كله وما تلونا منه في وجوب الهجرة بياناً وتنويراً.(2/159)
وما كان من موسى صلى الله عليه، عند رجعته إلى قومه في أخيه، إذ أقام مع العاصين في مكانهم، وهم مصرون لله على عصيانهم، ففيه عبرة لمعتبر، وبيان وموعظة لمدَّكر، قال الله سبحانه، لا شريك له:?ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئس ما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين?[الأعراف: 150]، فأخذ صلى الله عليه برأس أخيه يجره إليه غضباً وأسفاً، وتغيظاً وتلهفاً، وإعظاماً وإكباراً، وتقبيحاً وإنكاراً، لمقامه معهم وبين أظهرهم، مع ما صاروا إليه من معصية الله في أمرهم، وهارون صلى الله عليه مباين لهم فيما هم فيه من عصيانهم وضلالهم، وما ارتكبوا فيما بينهم وبين الله من سيء أفعالهم، يأمرهم دائماً بالهدى، وينهاهم عما هم عليه من الضلالة والردى، يناديهم في إنكاره، وتقبيحه وإكباره، بصوتٍ منه صيِّتٍ رفيع، يسمعه منهم كل سميعٍ .(2/160)
فتمسك ـ صلى الله عليه في نفسه، ومن أطاعه من آله وغيرهم من قومه ـ بِعِصَمِ الحق والرشد والهدى، بريءٌ مما هم فيه من الضلالة والردى، يقول صلى الله عليه: ?يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري?[طه: 90]، فما منعه ذلك كله من سخط موسى عليه، ولا من وثوبه صلى الله عليه إليه، يجره بلحيته ورأسه، وهارون في كُرَب أنفاسه، يعتذر في غمة كربه، وفيما نزل منه به، لما يراه هارون صلى الله عليه له عذراً، وعدوه من عصاة بني إسرآئيل يرى مِن فعلِ موسى به ما يرى، وهارون يعتذر إليه، صلى الله عليه، فما قَبِلَ موسى ذلك منه، ولكنه نبهه لما غفل عنه، فقال صلى الله عليهما:?يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري?[طه: 93]، قوله:?أفعصيت أمري? يدل على أن قد كان أَمَرَه، أن لا يقيم صلى الله عليهما مع من شآقَّ الله وكَفَرَه، وقوله:?ما منعك ألا تتبعني?، إذ عصوا ما منعك أن لا تتركهم وتلحقني، ?قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقولَ فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي?[طه: 94].(2/161)
فهل رأيتم هديتم من قولٍ أشبه بأن يكون عذراً من قول هارون واعتذاره، مع ما كان من أمره ونهيه وإنكاره، فلما علم موسى صلى الله عليه ذلك كله، وأن هارون صلى الله عليهما أَتَاه وفَعَلَه، وأن جميع ما فعل من ذلك وإن كان إحساناً، وكان لله تبارك وتعالى رضواناً، غير مقبول عند الله منه، وإن مقامه مع الظالمين ذنبٌ يحتاج إلى الله في العفو عنه، قال موسى بعد اعتذار هارون صلى الله عليهما إليه، واستعطافه بذكر أمه له عليه، إذ يقول:?ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي ولا تجعلني مع القوم الظالمين?[الأعراف: 150]، فلم يستغفر موسى لهارون ذنبه، ولم يسأل العفو عنه ربَّه، حتى علم هارون أنه قد كان أخطأ في مقامه مع الظالمين، يرى ويعاين عصيانهم لرب العالمين، فعندما اعترف هارون بزلته في مقامه معهم، وتركه لاتباع موسى عندما رأى منهم، قال موسى صلى الله عليه: ?رب اغفر لي ولأخي وادخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين?[الأعراف: 151]، وقول موسى لهارون صلى الله عليهما، : ?أفعصيت أمري? بَيِّنٌ أن قد كان أمره وقال له إن رأيت من القوم عمى، أو ضلالاً أو ظلماً، فلم يقبلوا قولك فيه، وأقاموا مصرين عليه، فالحقني، وآتني واتبعني، فهذا وجه قوله ?أفعصيت أمري?، يقول فأقمت مع مَن كَفَر وظَلَم، وجاورت مقيماً مع من أجرم.(2/162)
وفي موسى نفسه صلى الله عليه ومن كان معه وتبعه لميقات الله له من خيار بني إسرائيل، ما يقول الله تبارك وتعالى فيما نزل على محمد صلى الله عليه وعلى آله من كتابه الحكيم:?واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين?[الأعراف: 155]، فأخذتهم الرجفة، وحلت بهم من المعصيةالمخافة، وهم هم، ومع سخطهم لهم، فوصلت معرَّةُ العاصين منهم، إلى من قد زال عنهم، فلما أصابتهم الرجفة، ظنوا أنها الهلكة المتلفة، ولم تكن تلك الرجفة من الله لهم هلكة مدمرة، ولكنها كانت من الله لهم ولغيرهم من الأمم موعظة وتذكرة، نفعهم الله بها وأولياه، وذعر بها من الأمم أعصياه، رحمة من الله للمطيعين والعاصين، وموعظة للفريقين من رب العالمين، فتبارك الله فيها أحكم الحاكمين، والحمد لله بها وفيما كان منها لأرحم الراحمين.
ومن ذلك وفيه، فخبر الله جل ثناؤه عن عيسى صلى الله عليه، بعد الذي كان من إخباره عن موسى صلى الله عليه، بما قد سَمِعَتْه عن الله آذانكم، وأحاط به يقيناً إيقانكم، من مهاجرته صلى الله عليه، وسياحته مهاجراً على قدميه، هارباً لسخطه في الله من بني إسرائيل، إذ لم يعملوا بما في أيديهم من التوراة ولم يقبلوا ما جاء به من الإنجيل، وأَبَوا إلا الكفر لنعمة الله، والمشآقَّة بعصيانهم على الله، فلما أحس عيسى صلى الله عليه كفرهم، وتوجس في إصرارهم على الكفر أمرهم، كما قال الله سبحانه: ?فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله?[آل عمران: 52]، يريد: من المهاجرُ معي إلى الله، والتابعون لي سياحة في سبيل الله، ولسياحته في الله، ونصيحته بها لله، سماه الله مسيحاً، وكان لله فيها نصيحاً.(2/163)