وقال إبراهيم صلى الله عليه: ?إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين?[الصافات: 99]، وقال عليه السلام لأبيه، إذ أجمع من الهجرة على ما أجمع عليه، عند الرحيل والزوال، وعند ما جاءه له من السلام:?سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً، وأعتزلكم وما تدعون من دن الله وأدعوا ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً?[مريم: 47 ـ 48]، فلما اعتزلهم وما يعبدون صلى الله عليه وأصنامهم، وفارق مهاجراً إلى الله دارهم ومقامهم، وهبه الله من إسحاق ويعقوب ما وهب، وهداه الله في مذهبه إذ ذهب، وقال سبحانه: ?فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً، ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدقٍ علياً?[مريم: 49 ـ 50]، فهاجر إبراهيم عليه السلام لله قومَه وبلده، وفارق في الله وطنه ومولده، وهجر صلى الله عليه أباه فيمن هجر، وهو صلى الله عليه كان أبرّ مَن بَرٍّ، فهجر أباه في الله طاعة لله، وتبرأ منه إلى الله، إذ تبيَّن له أنه عدو لله، فقال سبحانه فيه، صلى الله عليه، :?وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواهٌ حليم?[التوبة: 114]، والأواهُ فهو الرحيم: والحليم فهو: الحكيم.(2/154)


وهاجر لوط صلى الله عليه إذ هاجر معه، ولم يسعه من الهجرة إلا ما وسعه، كما قال لا شريك له:?فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم?[العنكبوت: 26]، وهاجر لوط صلى الله عليه بأهله ثانية، إذ كانت القرية التي كان فيها قرية طاغية، إذ جاءته ملائكة الله، فقالوا له عن أمر الله:?فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحدٌ وامضوا حيث تؤمرون?[الحجرات: 65] . تأويل لا يلتفت منكم أحد: لا يعرج أحد منكم تلبيثاً، وسيروا كلكم جميعاً سيراً حثيثاً، وليس تأويل لا يلتفت، ما يظن العمي الميِّت، من الإلتفات في النظر، إلى ما وراء الظهر أو إلى ما عن الميامن والمياسر، ولكنه استحثاث واستعجال، كما يقول المستحث المعجال، إذا أنذر أحداً أو أرسله، فاستحثه واستعجله: لا تلتفت إلى شيء ولا تعرج له.
ثم قال - من بعد قصة إبراهيم وأبيه - ربُّ العالمين، لرسوله ومن معه من المؤمنين: ?ما كان للنبي والذين معه أن يستغفروا للمشركين، ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم?[التوبة: 113]. فبيَّن سبحانه أن من والى من عاداه، فقد ضل عن حقه وهُداه، فمن جاور من ظلم وتعدَّى، وهو يجد من جواره بُدَاً، فقد قاربه بالمجاورة وداناه، ومن دانى أحداً كما قلنا فقد وَلِيَه وتولاَّه، والمقاربة كما قلنا فهي ولاية وإن لم تكن مؤاخاة، ولذلك ما طهر الله أولياءه من أن يجاوروا في دار ومحل أعداه، فأمر تبارك وتعالى لوطاً، إذ كان من هاجر عنه ظالماً مفرطاً، بالخروج عنهم والهجرة لهم، كما هاجر عن من كان قبلهم.(2/155)


وقال رب العالمين، لمن بعد إبراهيم من الرسل والمؤمنين: ?قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده?[الممتحنة: 4]، وما آمن بالله ولا راقب وعيده ولا وعده، من والى أعدآءه، وكان متبوّأهم متبوأه، ولا أناب إلى الله ولا أسلم له، ولا قبل أمره وقوله:?وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون?[الزمر: 54 ـ 55]، إذ من الاسلام والإنابة إليه، المهاجرة لعدوه فيه، كما لا يكون من أتاكم ولا ورد عليكم، مَن مشى بعض الطريق إليكم، فكذلك لا يكون عند الله منيباً مسلماً، من لم يكن للإنابة والاسلام مُكملاً مُسْتَتِمّاً.
ألا تسمعون لقول إبراهيم صلى الله عليه والذين آمنوا معه، وكل من آمن به من المؤمنين واتبعه: ?إنا برءآء منكم? فقدموا ذكر التبرِّي منهم، وذكر انقطاع الولاية والمجاورة بينهم، قبل ذكرهم لأوثانهم ومعبودهم، وما كفروا لله به فيها من شركهم وجحودهم، فكما يجب الاعتزال للضَّلال، فكذلك يجب الاعتزال للضُّلال، وكما تجب الهجرة للكفرة والفجار، فكذلك تحب الهجرة للفجور والكفار، فرحم الله عبداً اعتزل الضَّآلين وضلالهم، وهجر لله وفي الله الظالمين وأعمالهم، فإنه أَمر سبحانه باعتزالهم، كما أَمرَ باعتزال أفعالهم، ولم يعتزلهم مهاجراً ولا مجانباً، من كان لهم في دار ظلمهم قريناً أو مصاحباً.(2/156)


فليحذر أمرؤ - جاور مَن ظََلَم وحَآلَّه، وإن لم يفعل في الظلم أفعاله - أَخْذَ الله له وعقابه، وليذكر حكم الله عليه وكتابه، فقد سمع ما أنزل الله من ذلك وفيه، وما حكم به من هجرة الظالمين عليه، ففي أقل من(1) ذلك كفاية وغنى، ونورٌ لمن هداه الله وضياء، فقد جاءت من الله في ذلك كله البينة المضية، ووصلت إليه فيه سنن رسله وأوليائه المقبولة عند الله المرضية، التي جعلها الله سبحانه من بعدهم صلى الله عليهم تذكرة كافية، وحجة على كل من آمن بالله وموعظة بليغة شافية.(2/157)


[هجرة المؤمنين السابقين]
وليسمع قول أصحاب الكهف إذ يقولون وهم هاربون، من قومهم في الله فارّون: ?وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيء لكم من أمركم مرفقاً?[الكهف: 16]، فذكر اعتزالهم لأشخاصهم وأبدانهم، قبل ذكرهم لاعتزال أصنامهم وأوثانهم، وكانوا معتزلين لهم هاربين منهم إلى كهف الجبل، مفارقين لله وفي الله الآباء والأهل، مهاجرين بذلك في الله، من كان عدواً لله.
وأَمرُ الله سبحانه لبني إسرائيل بالخروج من قرى فرعون، ففيه بينه ظاهرة جلية في الهجرة لقوم يعقلون، قال الله لا شريك له لموسى وهارون صلوات الله عليهما ورضوانه: ?فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل?[الشعراء: 16 ـ 17]، وقال سبحانه: ?وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون?[الشعراء: 52]، فأمرهم سبحانه بهجرة عدوّه وأخبرهم بأنهم سيتبعون، لتشتد عليهم فيما أمرهم به من ذلك المحنة، ولتعظم لهم ومنهم به في طاعتهم لله الحسنة، فلم يمنعهم خوفهم لفرعون وجنوده، من المضي لما عهد الله إليهم في الهجرة من عهوده، مع ما دخل من الخوف في اتِّباعه عليهم، وقال سبحانه بعدُ فيهم؛ إذ هاجروا - مع هائل الخوف في الله - مَن كان لله عدواً: ?فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً?[يونس: 9].(2/158)

117 / 201
ع
En
A+
A-