ولو كان لا يهلك، إلا منكر أو مشرك، كان ما ذكر الله من إهلاكه للقرى بالعدى والظلم، تلبيساً شديداً وحيرة في الفهم والعلم، لا يخاف الهلكة معه ظالم ولا مفسد، ولا طاغٍ مقر ولا متمرد، بل كان كل مَن فَسقَ وظَلَم، وطغى وتعدى وغشم، آمناً للغِيَر والنقم، في كل فسق وجرم.
وإنما الشرك ضربٌ من ضروب الفسق والظلم، خصه الله بخاصة من الكبر والعظم، كما قال لقمان عليه السلام: ?يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم?[لقمان: 13]، فخصه لقمان بما خصه الله به من التعظيم، وكل كبيرة سوى الشرك من المعاصي فقد خص الله أهلها فيها بالتظليم، والكبائر وإن اختلفت بأهلها فيها الشئون، فبالظلم وإن اختلفت هلكت القرى والقرون، ولذلك وبه، وما ذكرنا من قدره، ما يقول الله سبحانه: ?وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً?[الكهف 59].
وإن - فيما ذكر الله لا شريك له في سورة الطلاق، وما عظَّم فيها من خلاف أمره حتى في الفراق، والاشهاد عليه إذ كان بشاهدي عدلٍ، وما حكم به على المؤمنين في السورة كلها من حكمه الفصل، وما خَوَّفهم فيها به من ترك أمره وعهده ونهاهم فيها عنه من التقصير، وذَكَّرهم به في عُتُوِّ القرى عن أمره من التذكير - لدليلاً مبيناً، وعلماً يقيناً، بأنه يهلك القرى، إذا أراد وشاء، بالعتوِّ والفسوق والعدوان، وبكبائر الظلم والعصيان، إلاَّ أن يَدفع ذلك عنهم في الدنيا برحمته، ويؤخرهم بالعقاب فيه إلى يوم حشره وبعثته.(2/149)


فاسمعوا لقول رب العالمين، في ذلك للمؤمنين، بعد الذي أمرهم به، في السورة من أمره: ?وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً، فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً، أعد الله لهم عذاباً شديداً فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكراً، رسولاً يتلوا عليكم آيات الله مبيناتٍ ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً?[الطلاق: 8 ـ 11]، فلما كان جميع من في القرية، لا يخلو من عامة أو خاصة متعدية، وكان أمر الله وأمر رسوله للعامة، في الخاصة المتعدية الظالمة، أن يجاهدوهم إن قووا وانتصفوا، ويهاجروهم وينتقلوا عنهم إن ضعفوا، فلم يفعلوا ما أمروا بفعله، كانت القرية كلها عاتية عن أمر الله وأمر رسله، فحل عذاب الله بذلك فيهم، ونزلت نقمات الله فيهم وعليهم، وكان كلهم ظالماً عاتياً فاستحقوا جميعاً الهلاك بظلمهم وعتائهم، وعصيانهم واعتدائهم، ولو كان الأمر في ذلك كما قال من لم يُهدَ فيه لرشده، ولم يُسدَّد في القول للهدى وقَصْدِه، لكان في ذلك من التجرية، لكل نفسٍ متعدية، ما تقل معه لله منهم الطاعة، ويعظم فيه عليهم الفساد والإضاعة، ولكن لم يأمر الله سبحانه في السورة كلها وينه، ولم يكن بما فيها من التذكير والتحذير واعظاً منبهاً، إلا لمن آمن من المؤمنين به، ولم يجحد بشيء من رسله ولا كتبه.
فافهموا هديتم قوله سبحانه: ? آيات مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور?، فإنكم إن تفهموا ذلك يَبِنْ لكم إن شاء الله ما التبس عليكم في كل ما ذكرنا من الأمور، وخرجتم ببيان الله فيه من ظلمات الهوى، إلى نور الحق والبر والتقوى.(2/150)


وفي قرى الفسق والعتا والظلم، وما أحل الله بها من الحطم القصم، ما يقول سبحانه:?وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون?[الأنبياء : 11 ـ 13]، فمن تأويل ? لعلكم تسألون ?، لعلكم تعرفون، وتقِرُّون أيها المترفون، المساكنون بما كنتم في مساكنكم من الظلم تعملون، فلما عرف كُبَرَاء القرية وضعفاؤها بظلمهم فيها أجمعين، قالوا: عند الاعتراف والاقرار آسفين متحسرين: ?يا ولينا إنا كنا ظالمين?[الأنبياء: 14]، قال الله لا شريك له: ?فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين?[الأنبياء: 15].
فكم وكم من نقمة، وقرية منقصمة، الظلم من أهلها والعدوان قَصَمَها، والفسق من ساكنها والعصيان حَطَمَهَا، قد نبأكم الرحمن نبأها، وخبَّركم في كتابه مهواها، وما به كانت هلكتها من الظلم وَرَداهَا، لتهاجروا فساقها وفسقها، ولتجانبوا أخلاقها وطرقها، ولتحذروا مثل الذي وقع بساكنيها ومجاوريها، إذ لم ينكروا الظلم من مترفيها وجباريها، فأصبحت الجبابرة مقصومة، ومدائنها بالهلكة محطومة، وجيرتها معها مدمرة، إذ لم تكن لظلمهم مباينة مُنكِرَة، وفي مثل ذلك ما يقول الله سبحانه: ?وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين?[القصص: 58].(2/151)


[هجرة الأنبياء والرسل]
ومن ذلك، ولذلك، ما يقول الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ?قل رب أما تريني ما يوعدون، ربّ فلا تجعلني في القوم الظالمين?[المؤمنون: 93 ـ 94]. لأن من كان مقيماً فيهم، وصل إليه ما وصل إليهم؛ لأنه لا يجاور أهل الظلم ويقيم فيهم إلا الظالمون الفاجرون، ولذلك يقول سبحانه:?وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون?[الأنفال: 33]، يقول سبحانه: يعذبهم وهم يتوبون ويتورعون؛ لأن الاستغفار، هو التوبة من أهل الكفر والإقصار، فلم يقم أحد من المرسلين، بدار من دُور الظالمين، إلا مبايناً داعياً، ومنتظراً فيها لأمر الله مراعياً.(2/152)


ومِن قبلُ ما حكم الله به من الهجرة على رسوله وعلى المؤمنين، فقد حكم به على من مضى قبلهم من المرسلين، ومن تبعهم فكان معهم من عباده الصالحين، فقال في نوح صلى الله عليه، وما صيَّره سبحانه من الهجرة إليه: ?واصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون، فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين?[هود : 37 ـ 38]، ثم أمره سبحانه أن يحمده على إنجائه له منهم، وما حكم به عليه من البعد عنهم، وكانت هجرته لهم قبل غرقهم على ظهر الماء، وفي الفلك بين الأرض والسماء، وقال صلى الله عليه: ?رب إن قومي كذبون، فافتح بينبي وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين?[الشعراء: 118]، فقال سبحانه: ?فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون، ثم أغرقنا بعدُ الباقين?[الشعراء: 19 ـ 120]، فأنجاه تبارك وتعالى منهم، وغرَّقهم بعد هجرته عليه السلام عنهم، فهاجر صلى الله عليه أهل الكفر والفسق، قبل ما أحلّه الله بهم من الهلكة والغرق، تأدية لفرض الله عليه في الهجرة لهم، وقد كان قادراً على أن ينجيه وإن أقام معهم، ويغرقهم بجرمهم، وبما ركبوا من كفرهم وظلمهم.(2/153)

116 / 201
ع
En
A+
A-