مع التي ليس فيها إحالة، ولا بعدها لمؤمن ضلالة، من العلم بهلكة من لم يهاجر دار من أمره الله بمهاجرته، وأقام مجاوراً لمن منعه الله من مجاورته، ممن اعتذر عند حضور وفاته إلى الملائكة، بالضعف في الأرض التي كانوا فيها وما خشوا من أهلها على أنفسهم من الهلكة، ففي ذلك أكفى الكفاية، لمن له في نفسه أدنى عناية، قال الله سبحانه: ?إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً?[النساء: 97]، فاعتذروا في الجوار لمن ظلم عند مسآءلة الملائكة لهم عن أمرهم، بما لم يقبله الله جل ثناؤه ولا الملائكة صلوات الله عليهم من عذرهم، وردت عليهم الملائكة في ذلك رداً محكماً فصلاً، جعله الله لرضاه به وحياً منزلاً، فقالت الملائكة عليهم السلام: ?ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها?، وقال الله لا شريك له لهم: ?فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً?، فلم يجعل الله سبحانه لهم في جوار أعدائه عذراً ولا تعذيراً، وجعل جهنم لهم مصيراً وداراً، ولم يزدهم عذرهم عنده إلا تباراً، فأي كفاية أو شفاية أشفى، لمن أراد شفاء من هذا لمن يسمع و يبصر ويرى، فنحمد الله على ما بيّن في الهجرة من الحق والهدى، فأمر به وفرضه من مهاجرة مَن ظَلَم وتَعدَّى.
مع ما في سورة الامتحان، في الهجرة من التأكيد والبيان، فقال الله لا شريك له: ?يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة? [الممتحنة: 121]، فإنما كان إلقاء بغير التقاء ولا مقاعدة، بكتابٍ كتبه، فيما قالوا: حاطب ابن أبي بَلْتَعَة، فقال عمر: اتركني يا رسول الله أقتله فقد كفر بمكاتبته، فمنع رسول الله عمر مما أراد بحاطب من القتل لرجعته وتوبته، وكان رسول الله صلى الله عليه في ذلك بحكم الكتاب، أعلم من عمر بن الخطاب.(2/144)
ثم أكَّد في السورة على المؤمنين أشد تأكيد، وردد نهيه عن موالاة من كفر ترديداً بعد ترديد، وأخبرهم أن الأرحام وإن كانت بينهم، فإنها غير نافعة في يوم القيامة لهم، وكل محل ودار، كان أهلها كفاراً أو غير كفار، إذا كانوا أعداء لله وكان الحكم في الدار حكمهم، وكانت داراً ظاهراً فيها ظلمهم، فهجرتها مفترضة واجبة، وحلولها هلكة معطبة، وبذلك وله، ولما ذكرنا منه، هلكت القرون والأمم، ودمرت القرى والمدن، إذ لم يكن فيها إلا ظالم معتدٍ، ومجاور لمن ظلم غير مهتد، فلم يستحق الهلكة والتدمير من الفريقين إلا مذنب مجرم، يستوجب أن ينزل به من الله جل ثناؤه التدمير والنقم.(2/145)
[هلاك جبابرة الأمم]
فاسمعوا لخبر الله عمن دمر بالظلم من القرون والقرى، فإن به عبرة وموعظة شافية لمن يبصر ويسمع ويرى، قال الله سبحانه: ?وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً، وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً?[الإسراء:16-17]، فخص الله مترفيها بالذكر في الفسق، وإن كان كل أهلها فساقاً في حكم الحق؛ لأن أهلها إنما هم مترف أو جبار، أو مُساكن لهم وجار، فكلهم فاسق عن أمر ربه، وكلٌ فإنما أُخِذَ بذنبه.
وفي تذكير الله بإهلاكه للقرى، ما يقول الله سبحانه مذكراً، ?واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون، وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون، فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذابٍ بئيسٍ بما كانوا يفسقون? [الأعراف: 163 ـ 165]، فكان أهل القرية ثلاثَ فرق، نسبها الله إلى العتاء والفسق، وفرقة من الفرق الثلاث معذرة مقصرة، وفرقة منهن واعظة ناهية مذكرة، تنهى من عتا، عن الفسق والعتاء، وتذكر بما يجب لله من الطاعة والرضى، فلم يذكر الله تبارك وتعالى في خبره عنهم، أنه جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، أنجا منهم، إلا من أمر ونهى، وكان واعظاً منبهاً، وداعياً لهم إلى الله مُسمِعاً، ومُقِبِّحاً لعتاهم مُشَنِّعاً، لم يذكر سبحانه عمن خلًّصه وأنجاه، أنه أقام مع مَن وعظه ونهاه، في محل الفسق والعتا، ولا أسبت معهم في قريتهم سبتاً، ولا استحل فيها لهم جواراً، ولا قر معهم فيها بعد العتاء قراراً.(2/146)
وكيف يقيمون معهم في القرية، مع ما أظهروا لله فيها من المعصية، يرونها فيها عياناً، ويوقنون بها إيقاناً، لَلَّهُ كان أجل في صدورهم جلالاً، وأكبر في نفوسهم أمراً وشأناً، من أن يجاوروا مَشآقِّيه ومَعاصيه، أو يقيموا جيراناً لمن يشآقِّه ويعصيه، وهم لو ـ جاورهم جارٌ في أنفسهم بما يسخطون، أو بكثير من الأذى والمكروه هم له ساخطون، لا يقدرون له على دفاع، ولا منه إلى امتناع ـ لما أقاموا ساعةً واحدةً معه، ولا سيما إذا كان لا يقدر أحد منهم على أن يدفعه، فكيف بمساخط الله التي هي في صدورهم أعظم، ولقلوبهم أحرق وآلم، ما يحل توهم ذلك عليهم، ولا نسبة شيء منها إليهم، والحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من مجاورة الظالمين.
وفيما ذكرنا من هلكة القرى، ما يقول الله تبارك وتعالى: ?وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد?[الحج: 45]، فذكر سبحانه إهلاكه لكل من كان في القرية من ضعيف أو شديد، إذ لم يكن في القرية إلا جبارٌ أو جارٌ، وكلٌ فقد حقت عليه من الله الهلكة والدمار؛ لأنهم كلهم لله عصاة، وعن أمره جل ثناؤه عتاة، جبارها بتجبّره واستكباره، وجارها بمحآلَّته للظالمين وجواره، فكلٌ أهلكه الله بكسبه، وأخذه الله بجرمه وذنبه، كما قال سبحانه: ?فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون?[العنكبوت: 40]، وقال سبحانه: ?ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون، أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون، أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون?[الأعراف: 96 ـ 99].(2/147)
فينبغي لمن كان في قرية من القرى، غير معمولٍ فيها بما يحبّ الله ويرضى، الغالب على أهلها فيها الظلم والعتا، أن لا يأمن مكر الله وأخذَه لأهلها ضحىً أو بياتاً، ولا يغفل عما يتوقع من أمر الله فيها، من حلول نقمه بها وعليها، وإن أُمْلِيَتْ فأطيل لها الإملاء، فإن بالغفلة يهلك فيها الغُفَلاء.
وربما أملى الله لقرية فأطال، وهو يرى فيها الظلم والضلال، كما قال سبحانه: ?وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة، ثم أخذتها وإليّ المصير?[الحج: 48]. ففي هذا وأقل منه موعظة لمن يعقل ويبصر، ?وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور?[فاطر: 21]، كما قال العزيز الغفور، ولعل مَن عَمِيَ قلبُه، وضل فلم يرشد لُبُّه، كما قال الله سبحانه: ?فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور?[الحج: 46]، أن لا يبصر ما فَصَّل الله في هذا الباب من الأمور.
فنقول: إنما نزلت نقم الله وعذابه، وحل تدميره وعقابه، على من أشرك به، ولم يقرّ بربه، فأما نحن فمقرون، وأولئك كانوا يكفرون، ففي قول من قال ذلك لمن يعقل عجب العجب، لما فيه على الله من الافتراء والكذب، أو لا يرى من زعم ذلك وقاله، وزُيِّن له فيه مقاله، أن الله سبحانه عذَّب قرية أهل الاعتداء في سبتهم، على ما ركبوا فيه وما مسخهم الله به من معصيتهم، التي لم يخلطها منهم لله ولا لشيء من دينهم إنكار، ولم يأت لشركهم في مسخ الله لهم بمعصيتهم من الله ذكر ولا إخبار، بل إنما عظَّم الله سبحانه عصيانهم، وذكر في سبتهم عدوانهم، لإقرارهم فيه على أنفسهم بالتحريم، ولما كانوا عليه للسبت من التعظيم، وبتعظيم الله له وتعظيم رسله عندهم في دينهم عظَّموه، وبما حرَّمت عليهم رسل الله حرَّموه.(2/148)