فاسمعوا لقول الله سبحانه لرسوله في بني إسرائيل، وما وقَّفَه عليه من ذلك في التنزيل: ?وترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا منهم لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون?[المائدة: 80 ـ 81]، يقول سبحانه لو كانوا يؤمنون بالنبي الذي كان فيهم، وبمن صار من أنبياء الله ورسله صلى الله عليهم إليهم، لما والوا عدواً مشآقاً، ولا أدخلوا عليهم إذ كانوا أعدءاً للرب مرفقاً، بمخالطة منهم لهم ولا معاملة، ولا بمجاورة لأحد منهم ولا محآلّة، وقد تعلمون أن من ذكره الله سبحانه في هذه الآية بالتولي للكفار من اليهود، وإن كانوا قد نقضوا في أكثر الأمور ما بينهم وبين الله من العهود، فلم ينقضوا أنهم غير متولين للكفار في أديانهم، ولا راضين بعبادة ما كان الكافرون يعبدون من أوثانهم، ولا ما كانوا يشرعون في دينهم من الشرائع، ويفترون على الله فيه من الشنائع، في أكل الميتة والدم، وما كانوا يحلون من كل محرَّم، بل كانوا لهم في ذلك مخالفين، ولعملهم فيه من القالين، ولكنهم كانوا لهم موالين، وإن لم يكونوا لدينهم قائلين، وكانوا لهم على دينهم من العائبين، ولهم في أنفسهم من المعادين، ولكنهم كانوا أولياء لهم بالنصرة والموآدَّة، وبما ذكرنا من الجوار والمعاملة والمقاعدة.
أفلا ترون كيف جعلهم رب العالمين، بموالاتهم لمن ظلم من الظالمين ؟! فأثبت سبحانه عليهم في الحكم، أنهم عنده كَهُم في الظلم، وأنهم منهم بموالاتهم لهم، وإن كانوا بُرَأَآءُ منهم في شرائع دينهم، وجاهلين بأكثر أقاويلهم، لا يعملون منها حرفاً، ولا من أوصافهم فيها وصفاً، فلذلك كان من الموالاة، ما ذكرنا من القرب والمداناة، التي منها المجاورة والمحآلَّة، كما منها الإخاء والمخآلّة.(2/139)
ومن قارب شيئاً ودنا إليه، فهو غير شكٍ يليه، وكذلك في المحبة مَن وَالاكُم، فقد وآدَّكم وآخاكم. ومن ذلك حرم الله سبحانه المجاورة والمداناة، إذا كانت بين أهلها مقارنة وموالاة، ففرض الله على نبيه صلى الله عليه وعلى المؤمنين الهجرة لدار مَن كفر به، ولم يَصِر إلى القبول عنه لما جاء به من ربه، ولِمَن هاجر - يومئذٍ من المؤمنين عن الدار، وما أمر الله بهجرته من الكفار، وقِبَلهم وفيهم، وعندهم ولديهم - الأموال والديار العامرة، والأبناء والأهلون والقرابة الناصرة، فألزمهم الله لذلك كله الهجرة، وأوجب عليهم لدينه ولأنفسهم النصرة، وأبقى الهجرة بعدهم، لمن سلك قصدهم، شريعةً ثابتةً قائمة، وفريضة للمؤمنين لازمة دائمة.(2/140)
[الهجرة شرط الإيمان]
ولم يجعل سبحانه للمؤمنين حقاً، وحقيقة في الاسم وصدقا، ولم يوجب مغفرة ورزقاً كريماً، ولم يجعل برحمته فوزاً عظيماً، إلا لمن هاجر لله وفيه، وخرج من بيته مهاجراً إليه.
وفي ذلك ما يقول الله سبحانه في تنزيله، وما بَيَّن به في الهجرة من تفصيله: ?والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم?[الأنفال: 74]، ويقول سبحانه: ?ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً?[النساء: 100]. فما استحقوا على الله سبحانه جزاه، وإن آمنوا وجاهدوا حتى هاجروا في الله مَن عاداه، وزالوا من دار أهل مشآقَّته وعصيانه، وخرج كل مهاجر منهم عنهم هارباً إلى الله من أوطانه.
فكيف يرجو النجاة عند الله، والفوز برضوان الله ؟! من لم يهاجر إلى الله كما هاجروا، أو يُؤْوِ وينصر كما آووا ونصروا، لا كيف إن فَهِمَ عن الله أو عَقَل !! أو عَلِمَ ما أوحى الله في ذلك ونزَّل!!
أما سمع قول رب العالمين، إذ يقول سبحانه للمؤمنين: ?فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً، ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيرا?[النساء: 88 ـ 89]، ومن المنافقين، يومئذٍ لبعضِ المؤمنين، أبٌ وقريبٌ، وجارٌ وحبيبٌ، وعون وظهير، وولي ونصير، يوالي بعض المؤمنين في حربه ويناصره، ويعاونه على عدوه ويظاهره.(2/141)
فلما نزلت على المؤمنين يومئذٍ البرآءة منهم، ونهوا عن المقاعدة لهم، وقطع الله الولاية بينهم وبينهم، وأمروا بالاعراض عنهم، افترقوا بالرأي فيما حكم به عليهم في المنافقين فرقتين، وصاروا كما قال الله تبارك وتعالى فيهم طائفتين، فطائفة تأسى على ما فاتها من نصرهم، وما كان يدخل عليها من المرافق بهم، في المداينة والاسلاف، والمجاورة والائتلاف . وطائفة عَرِيَّة عنهم، قد قطعت الآمال منهم، والتي أسِيَت من المؤمنين عليهم تمنى لهم الهدى، والطائفة الأخرى فإنما تراهم حرباً وأعدا، وكل المؤمنين وإن اختلفوا فيهم، فقد قاموا بحكم الله في العداوة لهم عليهم، لا يعدلون بأمر الله لهم فيهم أمراً، ولا يتخذون منهم - كما قال الله عز وجل - ولياً ولا نصيراً، فنهاهم الله سبحانه عنهم، وجعل من تولاهم منهم، ومنافقاً مثلهم، بولايته لهم، ثم أمر سبحانه بقتل الفريقين، إذ كانا جميعاً منافقين، ومنع سبحانه من آمن به وبكتابه، وكان قابلاً لحكمه وآدابه، أن لا يتخذوا من الفريقين ولياً ولا نصيراً، أو يستظهروا منهم عوناً أو ظهيراً، تعزيزاً منه سبحانه للمؤمنين بأمره، واكتفآء لهم من غيره بنصره.
وفي ذلك ما يقول الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلىأهله، ?يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين?[الأنفال: 64]، فجعل له سبحانه فيمن اتبعه، وكان في طاعته معه، كفاية وعزاً، ومنعةً وحرزاً، والحمد لله الذي لا يُذِل أولياءه، ولا يُعِزّ أبداً أعداءهُ.
وفي الهجرة وذكرها، وما عظَّم الله من قدرها، ما يقول سبحانه: ?إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيم?[البقرة: 218]، فكأنه لا يرجو رحمة الله، إلا من هاجر لله وفي الله.(2/142)
ومن الهجرة وفيها، ومن الدلائل عليها، قول الله سبحانه:?وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين?[الأحزاب: 9]. فلم يوجب بينهم بالأرحام ولآءً وإن كانوا إخوة وقرباء، بل وإن كانوا أمهات وآباء، إلا أن يهاجروا دار من كان لله عدواً، ولا يتبوأوا معه في محل متبوّأ.
ومن ذلك وفيه، ومن الدلائل عليه، قول الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله:?يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك?[الأحزاب: 50]، فلم يحل له من بنات عمه وعماته، وبنات خاله وخالاته، إلا من هاجر معه ما هاجر، وزال عن دار مَن كَفَر.(2/143)