هذا حكمه جل ثناؤه على رسوله فيمن كَفَرَه، وتعدى أمره، فلو سهَّل الله سبحانه لأحد في هذا أو مثله، لسهَّل لرسوله صلى الله عليه وعلى آله، ولكان رسول الله صلى الله عليه أولى بالتخفيف فيه والتسهيل، فاسمعوا - هُديتم - لما حكم به من الهجرة في الوحي والتنزيل، على الرسول صلى الله عليه وعلى المؤمنين، وما أمره به وإياهم من مهاجرة الظالمين، قال الله لا شريك له، وهو يأمر رسوله صلى الله عليه وعلى أهله، بالصبر على ما حَمَّله، وعلى ما يقول أهل الكفر له:?واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا?[المزمل: 10]، فأنزل الله عليه بمهاجرته لهم أمره تنزيلاً .
ومن الهجر لهم الجميل، ما أمر الله به في الوحي والتنزيل، من النقلة عنهم، والبعد والإنتياء منهم، وهو صلى عليه كان فيه أولهم، وأسبقهم في الهجرة لهم؛ لأنه عليه السلام هاجر قبلهم، والبلد يومئذٍ بلده، وبها أهله ومولده، مؤثراً في ذلك كله لله بهجرته، وصائراً إلى أمر الله له بذلك وخيرته، وما ذكرنا من أمر الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله، بالهجرة للظالمين، فما لا يجهله والحمد لله علماء المؤمنين، ولا يحتاج في ذكره إلى تكثير، لما فيه من الغناء عن كل تفسير؛ لأنه تنزيلٌ من الله غير تأويل، فبيانه عند من وفقه الله بيان التنزيل.(2/134)


[الهجرة واجبة في كل الديانات]
ومن تشديد الله لفريضته في المهاجرة للظالمين وتأكيدها، أن الله سبحانه لم يجعل للمؤمنين ولاية لمن لم يقم بها ويؤدّها، فقال سبحانه: ?إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا?[الأنفال:72]، فمنع سبحانه المؤمنين من ولايتهم وإن آمنوا، إذا أقاموا في دار عدوّه فلم ينتقلوا ولم يظعنوا، وأبى تبارك وتعالى لأوليائه، أن يُوالوا ـ وإن آمن ـ من لم يهاجر دار أعدائه، نظراً منه سبحانه للأولياء، وتطهيراً لهم عن مجاورة الأعداء.
وهل رأيتم من يجاور عدوه وهو يجد من جواره بُدّاً ؟! إلا أن يكون ممن لم يهبه الله توفيقاً ولا رُشداً، وهل رأيتم لبيباً مجاوراً للسباع ؟! وهو يقدر منها على الامتناع، أو مقارباً للأفاعي وأولادها، وله سبيل ومنتدح إلى إبعادها، فَبِكمَ ترون من ظلم وتعدى، أضر وأخبث وأردى، مقاربة - والله المستعان - ومجاورةً، وأكثر لمن جاوره نكاية ومضرةً، وإن من ظلم وكفر وفجر ليضرك وإن نحا، فكيف يُحَالُّ فيما كان له منزلاً وبلداً وملجا، إن هذا لضلال - والحمد لله - ما يخفى، وجفآءٌ في دين الله لا يأتيه إلا من جفا.
ولقد قرأنا مع ما علَّمنا الله في التنزيل، ما في أيدي هذه النصارى من الإنجيل.(2/135)


فإذا فيه: أن طائفة من الأشرار، أبناء الظلمة والفجار، جاءوا يطلبون التوبة للرياء، إلى يحيى بن زكريا، صلى الله عليه، فقالوا له: طهرنا فقد تبنا إلى رب السماء، بما تطهر به التائبين من الماء، وكان يحيى صلى الله عليه، إذا صار إليه، أحد مطيعاً لله ومجيباً، أو تائباً إلى الله منيباً، أمره بالاغتسال من نهر الأردن، وكانت تلك سيرته صلى الله عليه فيمن آمن . فقال للذين أتوه كاذبين، إذ لم يكونوا بالحقيقة تائبين: يا أولاد الأفاعي إيتوا بثمرة، تصلح للتوبة والتطهرة، فطردهم ولم يرهم أهلاً للتطهرة، فهذا أيضاً والحمد لله من دلائل الهجرة.
أَوَ ما سمعتم نهي رب العالمين، عما ذكرنا من جوار الظالمين، إذ يقول سبحانه لعباده المؤمنين: ?يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا الآيات لقوم يعقلون?[آل عمران: 118]. وتأويل ?من دونكم?، هو من غيركم، يقول سبحانه: ?لا تتخذوا بطانة? من غير أهل دينكم، والبطانة في المقارنة هم القرناء، كما البطانة في المخادنة هم الخدناء، فمن قارن أحداً في المحل فهو له بالمجاورة بطانة وقرين، كما أن من خادن أحداً بمحلٍ هو له بالمخادنة بطانة وخدين، وإنما قيل للبطانة بطانة؛ لأنها مخآصة ومقارنة، فنهى الله سبحانه المؤمنين، أن يتخذوا الظالمين، أخلاء أو خُدَناء، أو جيرة أو قرناء؛ لأن من لا يدين دينهم لا يألونهم خبالاً، وإن لم يظهروا لهم حرباً ولا قتالاً؛ لأنهم يرجعون أبداً بهم وفيهم، عيوناً ذاكيةً لعدو الله عليهم، يجادلونهم بالباطل ليدحضوا به حقهم ودينهم، ويعارضونههم فيه بزخرف القول ليوهنوا به علمهم ويقينهم، فبعلمٍ من عليم، وتقدير من حكيم، ما نهاهم الله عن موالاتهم ومخآلَّتهم، ومنعهم من مجاورتهم ومحآلَّتهم.(2/136)


وفي ترك مقاربتهم وإيجاب مجانبتهم، وما أمر الله به الرسول صلى الله عليه والمؤمنين من مهاجرتهم، ما يقول الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ?وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواْ وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به?[الأنعام: 70]، يقول سبحانه بمهاجرتك لهم، ففيها تذكير لمن يعقل منهم، إن أبصر هداه ورشده، أو كان شيء من الخير عنده، ولا تجلس معهم، ولا يجمعك من المقاعدة ما يجمعهم، إذ كانت مقاعدهم مقاعد لهوٍ ولعبٍ واستهزاءٍ، فإن ذلك إذا كان كذلك يمنعهم من الذكر لما تذكِّرهم به من الأشياء، وفي تركك لهم وإعراضك عنهم، ما فيه تذكير لمن عقل منهم، ولم يذر الظالمين مَنْ جاورهم، وحلَّ وسكن دارهم.
وفي جدالهم، وزخرف أقوالهم، ما يقول سبحانه: ?ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزؤاً?[الكهف: 56].
وفي من ذُكِّر بآيات الله فلم يذكر، وبُصِّر نورها فلم يبصر، ما يقول الله لا شريك له: ?ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً?[الكهف: 57].(2/137)


[وعيد الله للمعرضين]
ثم أخبر سبحانه عن اغتماده واغتفاره الذي هو احتماله، وعفوه وتغمده ورأفته ورحمته وإفضاله، في ترك المعاجلة بعذابه ونقماته، لمن أعرض عما ذُكِّر به من آياته، فقال سبحانه: ?ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً?[الكهف: 57]، فمن أشد إعراضاً عن آياته ؟!‍‍ وما أوضح بها وفيها من بيناته، ممن جهل فرض الله عليه فيها، أَوَ ليس هذا هو الذي لم يلتفت قط إليها ؟‍‍! بلى إنه لهو ذلك، وإن لم يكن عند من لا يعقل كذلك .
وقد جهل قوم ما قلنا به في الموالاة، وما زعمنا أنه منها من القرب والمداناة، بالجوار والمحآلَّة، والخلطة والمعاملة، وقد يقال للقوم إذا تتابعوا جميعاً في مجيء، أو قالوا كلهم قولاً واحداً في شيء: إنهم جميعاً لمتوالون فيه، وفي المجيء إلى البلد: إنهم لمتوالون عليه. وإذا جاؤوا متتابعين، قيل: جاؤوا متوالين، وكذلك يقال للقوم إذا دخلوا أرضاً، وكان بعضهم مجاوراً فيها بعضاً، إنهم بالجوار لمتوالون فيها، كما يقال: إذا ساروا إلى الأرض إنهم لمتوالون إليها. وكما يقال للمُتَاصَفِينَ: إنهم أصفياء المودة والصفاء، كذلك يقال للمتوالين: أولياء في المقاربة والولاء، وقد قال الله تبارك وتعالى في أهل الكتاب من اليهود، إنهم أولياء لأهل الكفر والشرك والجحود.(2/138)

113 / 201
ع
En
A+
A-