وقد قال الله للمؤمنين جل ثناؤه: ?إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون?[المائدة: 56] فبَرَّأهم الله عز وجل من ولايته وحزبه، وولَّى كل امرئ منهم ما هو أولى به، كما قال سبحانه: ?ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولَّى ونصله جهنم وسآءت مصيراً?[النساء: 115].
ثم قال سبحانه بعقب ما قدَّم في الولاية من الآيات، وأوضح فيما أمر به فيها من البينات، تكريراً لنهيه عن موالاة الظالمين وترديداً، وتوكيداً لحكمه في مجانبة دار المعتدين وتشديداً: ?يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين?[المائدة: 57].(2/124)


فما ارتكب الظالمون من قتل الأبرار وصلبهم، أكبر عند الله أضعافاً مضاعفة من الاستهزاء بهم، والتلعب بالأنبياء، كالتلعب والاستهزاء بما جاؤا به من الأشياء، وكذلك التلعب بأولياء الله، كالاستهزاء بالدين عند الله، ولذلك أخبر الله سبحانه أنهم إن لم يكونوا لمن عاداه من المعادين، فليسوا لما ينتحلونه من الايمان بمستحقين، ولا في دعواهم له وتسميتهم به من المصدَّقين، ولا فيما أوجبه عليهم من هجرة من ظلم وتعدى من المتقين، بل حالهم في ترك ما حكم عليهم من ذلك حال مَن جهل واستهزأ، وأعرض عما أُمِر به من تقوى الله فيه طُغَىً وتعززاً، كما قال الله سبحانه فيما هو أقل من هذا قلةً، وأصغر عنده قدراً ومنزلة، من الظلم والاعتداء، فيما طُلِّق من النساء: ?وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك عدواناً فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوًا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم?[البقرة: 231].
وقال سبحانه فيمن تعزز واعتدى، وأبى ما دُعي إليه من التقوى والهدى: ?ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد?[البقرة 204 ـ 206]، فيكون ـ عند من يعقل مستهزياً، وظالماً في الدين متعدياً ـ من أمسك وهو يعول ويمون زوجته وهي [ا]مرأته ضراراً، ومَن قيل له اتق الله فتعزز على قائلها وأدبر نفاراً، أو لا يكون مَن ترك حكم الله فيما تلونا من الآيات، من المستهزئين المتعززين المعرضين العتاة ؟! كلا لن يكون أبداً ذلك، إلا عند كل عميٍّ كذلك.(2/125)


ألا تسمعون لقول الله سبحانه، فما أوضح حجته وبيانه: ?وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزؤ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً?[النساء: 140]، فجعلهم كهم ومثلهم، ولم يعملوا في كل أمر عملهم، فكيف يكونون مستهزئين كافرين ؟! إن لم يكونوا كهم كفرة مستهزئين، هذا ما لا يَجهل - والحمد لله - بَيَانَهُ، مَنْ أَوضح الله عنده للحق برهانه.
ومن أين يقوم من لم يؤدّ فريضة الله في هجرة دار الظلم، بما حكم الله به على الظالمين من الحكم، في القتل والقتال، وما يجب عليهم من الانكار في معصية ذي الجلال، لَذَلِك أُعزُّ عليه عِزة، ولهو فيه أكثر معجزة، والله المستعان فيما يكون وما كان، ونسأل الله العفو والغفران، لما مضى من صحبتنا للظلم والطغيان، بحلول دور أهل الفجور والعدوان.
فمَن رأيتم - وفقتم وهديتم - صَحِبَ ما يكره من الأمور ويشنأ، أو جاور منكم أو من غيركم ما لا يرضى، وهو يجد منه بداً أو عنه مندوحة، وله إلى هربٍ منه سبيلاً أو طريقاً مفتوحةً، أو تخشون ألا يكون من جاور ورضي بالمقام، سخط ما يسخط الله جل ثناؤه من الظلم والآثام، بل يخافون ألا يكون من فعل ذلك وَجَدَ مسَّ عدم الاسلام، فهو سليم لتلك ولجهله بها مما مسَّ أهله لعدمه من الآلام .
فنعوذ بالله من الرضى بسخطه، ومن كل موالاةٍ لمسخطه، فإنه لا نجاة لأحد مع موالاتهم، التي منها ما ذكرنا من جوارهم ومداناتهم.(2/126)


ولما أراد الله برحمته من نجاة أوليائه، نهاهم وأكد وردد نهيهم عن موالاة أعدائه، فلم يسهل سبحانه فيها، ولا فيما نهى عنه منها، لمؤمنٍ في أبيه ولا أخيه، ولا في أحدٍ من أقربيه، وأزال ـ عمن وَالَى منهم أحداً، أو مَنَحَه في جدٍّ أو هزلٍ وُدًّا ـ الإيمان بالله واليوم الآخر، وجعله بهما وفيهما كالكافر، فقال سبحانه: ?لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدُّون من حآدَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروحٍ منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون?[المجادلة:22]، وقال سبحانه: ?يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون?[التوبة: 23]، فأنزل سبحانه بتظليمه لهم في ولايتهم إياهم وحياً، ثم قال تبارك وتعالى بعدُ للمؤمنين تقدماً ونهياً: ?لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير?[آل عمران: 28]. فأخبر سبحانه كل برٍّ تقي، أن مَن وَالَى مَن كَفَرَ أو ظَلَمَ فليس منه في شيء، لا في ولاية من الله ولا ارتِضَى، ولا في برٍّ عند الله ولا تُقَى.
ثم قال في آخر نهيه للمؤمنين، عما نهاهم عنه من موالاة الكافرين: ?ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد? فدل سبحانه بقوله: ?رؤوف بالعباد? على أن موالاة أهل الكفر والفساد، من مَسَاخِطِه العظام الشداد، إذ كان الرؤوف الرحيم، لا يسخطه إلا الذنب العظيم.(2/127)


وقال سبحانه: ?يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً?[النساء: 144]. فأخبر سبحانه أن ذلك منهم إن لم يفعلوه تقاةً نفاق، وأنه منهم ظلم وكفر وشقاق، وأنهم كهم كفار، وأن مصيرهم جميعاً إلى النار، لكفرانهم وفسقهم، وعصيانهم ونفاقهم.
ولو كان المنافقون الذين ذكر الله غيرهم، لما صيَّرهم من الدرك الأسفل مصيرهم، ولما كان في قوله: ?إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار? [النساء:145]، لهم من موعظة ولا معتبر ولا تحذير ولا ازدجار، ولكان القول في ذلك، لو كان القول كذلك، كالقول في فرعون وهامان وقارون، هم فجرة ظلمة كافرون، فما كان يكون في هذا لو كان من نذير، أو تعبير أو موعظة لأحد أو تذكير.
وكيف ينكر مَن آمن بالله أن يكونوا كافرين لنعم الله ؟! ومنافقين في دين الله، أو يزال النفاق والكفر عنهم، وقد جعلهم الله بولايتهم لهم منهم، ونسبهم في منزل كتابه إليهم، فاسم النفاق والكفر واقع عليهم؛ لأن من كان من قوم أو دين أو حُكم، لزمه ما يلزمهم من حكم واسم.
فأما قوله جل ثناؤه في الآيتين: ?من دون المؤمنين?، فإن من تأويل من دونهم عندي ووجوه فهمه والله أعلم فيهم، تعريجهم ونزولهم من دون المؤمنين عليهم، وحلولهم بالمجاورة لهم بين أظهرهم، واختلاطهم في المعاملة بهم، لما في المعاملة، من لين التراجع والمقاولة، وما يكون في ذلك، إذا كانوا كذلك، من زوال الغلظة، والاشتغال عن العظة، وقد أمر الله تعالى جده، ووجب في كل حكم حَمدُه، بالعظة لهم، والغلظة عليهم، كما أمر بقتالهم، والمجانبة لأعمالهم، فقال سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله، : ?يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير?[التوبة: 73].(2/128)

111 / 201
ع
En
A+
A-