[وجوب الإنكار أو الهجرة]
فما بال من أبَرَّ وأطاع فلم يَعْص، وحلول دار كل ظالم متعدٍّ لص، لا يُؤمِن ليلَه ولا نهارَه، ولا تسترُّ عمَّن حآلَّه أسرارُه، في عصيان الله ومشآقته، ولا يخفى عنه ولا يتوارى، مجاوراً لمن أسخط الله فيها لما يراه قاهراً ظاهراً، لا ينكره منه بلسان ولا يدٍ، ولا يقوم لله فيه بدفاع ولا ردٍّ، ذليلاً بين أظهرهم وفي جورهم، محكِّماً لهم على نفسه في فجورهم، إن كذَّبهم في افترائهم على الله كُذِّب، وإن باينهم بمخالفة في الله صُلب أو عُذِّب، غير ممتنع منهم بغلب ولا مُعآزّة، ولا مهاجر عنهم إلى دار عزٍّ أو مفازة، من فلاة ولا جبل وعر، أو بعدٍ أو مهرب أو مستتر، يستره عنهم ومنهم، ويفرق ما بينه وبينهم، مع ما وسَّع الله لمن صدقت إرادته لله من المهارب، وما جعل الله في أرضه لمن هاجر في سبيله من المذاهب، التي فيها لمن ظلم وتعدى مسآءةٌ وإرغام، ولمن أسلم نفسه إلى الله هدى وإسلام، كما قال الله سبحانه: ?ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً? [النساء: 100].(2/119)


[التمييز بين أولياء الله وأعداءه]
فكل ما ذكرنا من الجوار والمقاربة، والإكرام والتوآد والمحآبَّة، والنصر والولاء، والبر والإخاء، فحكم الله جل ثناؤه في أوليائه، ثم حكم الله سبحانه بعدُ في أعدائه، بخلاف ما حكم به للأولياء، تفريقاً بين مفترق الأشياء، كما قال جل جلاله فيما نزل من الفرقان: ?أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار? [ص:28]، وقال سبحانه: ?أفنجعل المسملين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون? [القلم: 35]، وقال تبارك وتعالى: ?أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون? [السجدة: 18]، فلم يسو بينهم عند ذي علمٍ، في اسمٍ منه لهم ولا حكم، وكان حكمه تبارك وتعالى على أعدائه ما لا يجهله ذو علمٍ، من لعنته وإخزائه، ومقته لهم وإقصائه، وما حكم به من هجرتهم على أوليائه، وما وكَّد على العباد من فرضه، في مجانبه كل مجرم وبُغضِه، وما أوجب الله على الأبرار، من الهجرة للظالمين في المحل والدّارِ، وما ألزم الظالمين من الصَّغار والذل، وما حكم به على بعضهم في ظلمه من القتل، وعلى بعضهم من القطع والصلب، وعلى بعضهم من السجن وألوان النكال والضّرب، وما أوجب الله على الظالمين من الخزي في الظلم، وما حكم به عليهم في ذلك من الحكم، فما لا يعمى عنه من نوَّر الله قلبه في معرفة الحق بضياء، ولا يخفى على محجوج من الخلق فيما يخفى عليه من الأشياء، ولا يحق لمن جهله حقيقة الإيمان، ولا يتم لمن عطَّله مثوبة الإحسان، بل يحبط الله عمله، بما جهل منه وعطَّله.(2/120)


[التحذير من موالاة أعداء الله]
ومن صار لعدوٍّ من أعداء الله، إلى محبّة أو موالاة، أو مسالمة أو مراضاةٍ، أو مؤانسة أو موآدَّة أو مداناة، أو مقاعدة أو مجاورة أو اقتراب، فضلاً عن توآدٍّ أو تحآبٍّ، فقد باء صاغراً راغماً من الله جل ثناؤه بسخطه، وهلك في ذلك بهلكة عدوّ الله وتورط من الهلكة في متورَّطِه، وكان في الإساءة والجرم مثله، وأحله الله في العداوة له محلَّه، وجعله الله لموالاته لمن عاداه، ولم يَصِر إلى ما أمره الله به من تقواه، ونسبه لموالاته لهم إليهم، وحكم عليه بما حكم به من السخط واللعنة عليهم، فرحم الله امرأً، أحسن لنفسه نظراً، فسمع في ذلك عن الله وقيله، واتبع ما نزله الله في ذلك من تنزيله، فإنه يقول سبحانه: ?ومن أصدق من الله قيلاً? [النساء: 122]، ويقول أيضاً في الكتاب: ?ونزلناه تنزيلاً? [الإسراء: 116]، وقد قال سبحانه في فريضته هذه بعينها، وما نزل به سبحانه كتابة من تبيينها: ?يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين? [المائدة: 51]، فأخبر سبحانه أنه من والى من الفريقين من عادى، فَلَيسُوا ممن وهبه الله ولا أعطاه الهدى، لجهلهم بحكم الله في ذلك عليهم، وجعلهم بموالاتهم لهم منهم ونسبهم إليهم، ودعاهم بموالاتهم لهم كما دعاهم ظالمين، فتبارك الله أحكم الحاكمين، الذي لا يعتريه وهمٌ ولا جورٌ في حكمه، ولا يحاط إلا بما شاء من علمه، ?لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون? [القصص: 88]، ولا يحكم سبحانه في صغير من الأمور ولا كبير كما يحكم الذين لا يعلمون، ولكنه يقضي الحقّ وهو خير الفاصلين، ولا يغفل في الأشياء كغفلة الغافلين، فيتناقض حكمه وأمره، ويسوء بتناقضٍ أو خلافٍ ذكره.(2/121)


[مرض القلوب]
ثم دل سبحانه على خفي مرض قلوب الموالين، لمن أمر بمعاداته وهجرته من الظالمين، فقال سبحانه: ?فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين? [المائدة: 52]، فنبأ سبحانه بما كانوا يقولون، وبإحباطه ما كانوا يعملون، وأنهم بموالاتهم لعدوّ المؤمنين ليسوا منهم، وبيّن الله للمؤمنين ما كانوا يسترون من ذلك عنهم، فأما ما ذكر الله من مسارعتهم فيهم، فهو [ما] كان بيِّناً غير مستور يرونه بمعاملتهم لهم ومصيرهم إليهم، مقبلين في كل وقتٍ ومدبرين عليهم، ألا تسمعون لقول الله سبحانه ?فترى?، ولا يرى صلى الله عليه إلا ما كان له معايِناً مبصِراً، فأما مرض قلوبهم، وما كانوا يخفون من عيوبهم، في الشك والارتياب والحيرة، وما كانوا عليه للدنيا من الحب والأثرة الكبيرة، فإنما يتبين عند ما يأتي به الله المؤمنين من النصر والفتح، فعند ذلك بالحسرة والندامة يفتضح من المرتابين كل مفتضح: فـ?يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين? [المائدة: 52]، فخسَّرهم الله أعمالهم، وصيَّرهم بموالاتهم لهم مثلهم كافرين، وقال سبحانه بعد هذا من أمره كله للمؤمنين، ?يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم?[المائدة: 53]، فأخبرنا سبحانه أنه لن يحبه ولن يُحب، ولن يزكو عنده ولم يطب، من لم يذل لأوليائه، ويعز على أعدائه.(2/122)


[مجالسة الظالمين مهلكة]
فلعمر أبي من جاور عدو الله من الظالمين، ما عز عليهم ولكنه كان لهم من الأذلين، ولعددهم في محلهم من المكثرين، ولدار ظلمهم بحلولها من العامرين، فنعوذ بالله من الشقوة في الدين، والمكابرة لما جاء فيه عن الله من اليقين.
فحذَّرَ ـ سبحانه من والاهم، بمودةٍ أو مجاورة فداناهم ـ الارتداد ـ بذلك من موالاتهم عن دينه، ومن قبل ذلك ما أخبر بمرض قلبه في يقينه، وكيف لا يكون من والاهم مرتداً إليهم، وقد حكم الله عليه بحكمه عليهم، فكُفرُه بموالاته لهم ككفرهم، وأمره في الكفر لنعم الله أمرهم، وكيف لا يكون في الكفر كهم، وقد جعله تبارك وتعالى مثلهم، فقال سبحانه: ?وقد نُزِّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزئ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً?[النساء: 140]، فجعلهم الله سبحانه في موالاتهم لهم من المنافقين والكفار، وأحهلَّم جميعاً كلهم محل أهل النار. وما ذكر الله عنهم، ولا سخط سبحانه منهم، عند ذكره في الولاية لهم، سِوى ما ذكر من الموآلاة، بالمقاعدة والمدآناة، فكيف من رَمَى إليهم بإخائه ووده ؟! وكثَّر عددهم بشخصه وعدده ؟ وعمر ديارهم وأسواقهم ومحافلهم بمحله وابتنائه، فلعله بذلك أنفع لهم ممن خصهم بودّه وإخائه، فهو عامر لهم ومكثِّر، ووليٌ لهم من حيث لا يشعر، فهم خيرته وأولياؤه، وفيهم مسكنة وثواؤه .(2/123)

110 / 201
ع
En
A+
A-