قيل لهم: وما الدليل على ذلك ؟
فإن قالوا: قول الله بتارك وتعالى: ? وأمرهم شورى بينهم? [الشورى: 38]. فلذلك فعلوا في أبي بكر ما فعلوا، حيث أقاموا ثلاثة أيامٍ يتشاورون فيه حتى أقاموا أفضلهم، يقال لهم: فهل يجوز لأحد أن يُحَوِّل هذه الفرضة فيجعلها على خلاف ما فرضها رسولُ الله صلى الله عليه وآله.
فإن قالوا: نعم. نقضوا قولهم، وفارقوا الإجماع في أنه لا تُحَوَّل فرائض الله. ولو جاز ذلك لجاز أن يجعل الظهر خمساً والعصر ستاً، والمغرب ركعتين، وكذلك الفرائض. وهذا نقضٌ لدين محمد عليه السلام.
وإن قالوا: لا يجوز في الإمامة تغييرٌ، ولا خلافٌ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله.
قيل لهم: فما بَالُ أبي بكر لم يجعلها شورى بين المسلمين كما جعلها النبي عليه السلام ؟!
فإن قالوا: لأن خلاف أبي بكر صوابٌ.
قيل لهم: وكذلك خلاف عمر صوابٌ، وكل من يأتي بعدهما إلى يوم القيامة، يخالفون رسول الله وأبا بكر وعمر، وجميع الأئمة.
فإن قالوا: ذلك جائزٌ.
قيل لهم: وكذلك جميع الفرائض!
فإن قالوا: لا.
قيل لهم: لِمَ لا يجوز وقد جوزتم في بعضٍ ؟! ولا حجةَ لهم!
وإن قالوا: يجوز. لزمهم نقض الدين كله. فإذا اضطروا أنه لا يجوز إلا الشورى، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في قوله لزم أبا بكرٍ أنه خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث استخلف عمر ونصبه بعينه، ولم يجلها شورى بين المسلمينَ كما جعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(2/99)


[وخالف عمرُ رسولَ الله وأبا بكر] حيث جعلها شورى بين ستة، فلا هو اقتدى برسول الله صلى الله عليه وجعلها شورى بين المسلمين، ولا هو اقتدى بأبي بكر فنص بعده رجلاً كما نصه أبو بكر بعينه واسمه. وهذه فريضة متناقضة. لأنا وجدنا أبا بكر لم يتبع فعل النبي عليه السلام في فريضة الإمامة، إذ زعمتم أنه جعلها شورى بين المسلمين، وكذلك عمر جعلها شورى بين ستةٍ. فكل واحدٍ منهما قد خالف صاحبه، وخلافهما جميعاً خلافٌ لفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كان صواباً ما خالفا به رسول الله في الدين قاسوا أبا بكر وعمرَ برسول الله عليه السلام، وزعموا أنه يجوز لكل واحدٍ منهما خلاف صاحبه، وأنه يجوز لهما أيضاً خلاف رسول الله، فإن قالوا: ذلك لا يجوز لهما. فقد ابتدعا في الاسلام ما لم يكن لهما.
ويُسألون عن فعل أبي بكرٍ وعمر في الإمامة، كان أصْوَبَ أم فعل النبي ؟!
فإن قالوا: فعلُهما. كفروا!!
وإن قالوا: فعل النبي عليه السلام أصوب.
قيل لهم: فأيهما كان أولى بأبي بكر وعمر يقتديان بالنبي أم لا يقتديان به ؟
فإن قالوا: يقتديان بالنبي خير لهما.
قيل لهم: فحيث خالفا النبي عليه السلام في الإمامة اقتديا به أم لم يقتديا به ؟!
فإن قالوا: لا. بل اقتديا. خالفوا أن تكون الشورى بين المسلمين مثل الشورى بين ستة، وأن تسمية أبي بكر لعمر وحده هي شورى بين المسلمين. وهذا المحال من الكلام.
وإن قالوا: لم يقتديا بالنبي ولو اقتديا به كان خيراً لهما.
قيل لهم: أفيجوز لهما ما فعلا أم لا يجوز ؟
فإن قالوا: نعم. هذا جائز لهما.
قيل لهم: أفصوابٌ ذلك أم خطأ ؟!(2/100)


فإن قالوا: بل خطأ. لزمهم أنه يجوز أن يُخَالَفَ رسول الله صلى الله عليه وآله. وإن زعموا أنه صوابٌ فقد زعموا أن خلاف النبي عليه السلام صوابٌ. وهذا ما لا يقول به أحدٌ من المصلين. وزعموا أن أبا بكر وعمر جائزٌ لهما أن لا يقتديا برسول الله صلى الله عليه وآله. وهذا شر ما أضيف إليهما تركُ الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله.
وقال بعضهم: إذا كانت الشورى بين المسلمين فليس بمتناقض إنما هو ما رأى المسلمون، إذا أجمعوا على أن يُصيِّروا رجلاً بعينه، وأن يجعلوه بين ستةٍ فهو ما فعلوا، فلهم ذلك، وليس في هذه الفريضة تناقض، إنما كان الأمر شورى.
فيقال لهم الشورى من الجميع أم من بعض ؟!
فإن قالوا: من الجميع. قيل لهم :فكيف جعل أبوبكر عمرَ بغير شورى بين المسلمين ؟! وقد وجدناهم يقولون ننشدك الله أن تستعمل علينا عمر فإنه فظ غليظ. فقال: أتخوفونني بالله، أقيموني فلما أقاموه، قال اللهم إني إذا لقيتك قلت استعملت عليهم خيرَ خلقك. والدليل على أنها لم تكن شورى أنه ساعة مات أبو بكر كان الخليفة من بعده عمر. وقد أجمع الناس على هذا. وقد أقاموا بعد رسول الله ثلاثة أيام يشاورون في أبي بكر. إلا أن يكون عمر بَانَ من الفضل بما لم يكن بَانَ به أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم!! فإذا انكسر هذا لم يكن يجوز لأبي بكر أن يقدم عمر إلا بشورى، ولا يجوز له ذلك دون المسلمين جميعاً.
وكذلك أيضاً يلزمهم في ستة دون المسلمين . فيلزمهم إن كانت إصابة الإمامة لا تكون إلا بالشورى من الجميع، أن الذي فعل أبو بكرٍ خطأ، وأن الذي فعل عمر خطأ، وإن كانت الشورى بين ستة كما فعل عمر فقد أخطأ أبو بكر، وإن كانت كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أخطأا جميعاً!(2/101)


ويسأل الذين زعموا أن فريضة الإمامة من رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي بكر بالصفة والدلالة، وأنهم إنما أقاموا أبا بكر بتلك الدلالة، مثل قول النبي صلى الله عليه : (صل بالناس). ومثل: يوم بدر أقعده معه في العريش، وكان مجلسه عن يمين رسول الله عليه السلام. قالوا بهذه الصفات اختاروا أبا بكر.
قيل لهم: فما بَالُ أبي بكر لم يدل على عمر بالصفة حيث سماه لهم باسمه ونصبه بعينه، وأقامه بعده، كما دلَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي بكر ؟! ولا يجدون إلى دفع ذلك سبيلاً. وهذا خلاف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفرض فريضة بالدلالة، ويجعلها أبو بكر بالنص وكذلك عمر أيضاً جعلها شورى. وهذا ما لا يجوز، أن يحوّل فريضة من فرائض الله عن جهتها، وإن جاز أن يُخالَفَ رسول الله صلى الله عليه وآله في فريضة واحدةٍ، جاز أن يُخالَف في سائر الفرائض، حتى تعطل جميع فرائض الله، وتحدث فرائض أخرى.
وإن قالوا: لا يجوز هذا إلا في فريضة الإمامة. سُئلوا الدليل على ذلك ؟
وكذلك أيضاً إن قالوا: الإمامة سنةٌ على مثل قياس الفريضة، فإن جوزوا تبديل سنن الله وسنن رسوله صلى الله عليه وآله، مثل صلاة الوتر بالنهار، وزكاة الفطر في الأضحى، وصلاة العصر في وقت المغرب، وصلاة الصبح في وقت العتمة، حتى تبطل جميع سنن الله.
فإن قالوا: لا يجوز تحويل السنة إلا في الإمامة. سئلوا الدليل على ذلك ؟ ولا يجدون إلى ذلك سبيلاً. ويلزمهم من ذلك مثل ما لزمت الحجة في مسألة الفريضة.
وإن قالوا: إن الإمامة تطوع. لزمهم أن سننَ الله وفرائضه لا تقوم إلا بالتطوع. وهذا ما لا نحب لأحد أن يقوله.
ويُسأل الذين يزعمون أن الإمامة لا تكون إلا بالشورى من جميع المسلمين، يقال لهم: أخبرونا عن الشوررى، في الأمة جميعا أم في كل جنسٍ، أم في الفاضل أم لا تكون إلا في جنس واحدٍ؟(2/102)


فإن قالوا: لا تكون إلا في جنس واحد. نقضوا قولهم إن الشورى لا تكون إلا بالمسلمين جميعاً.
وإن قالوا: لا تكون إلا من الأجناس جميعاً.
قيل لهم: فما بَالُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُدخلوا معهم في الشورى غيرهم ؟ وما بَالُ عمر لم يجعلها في الأجناس جميعاً ؟ وما باله لم يجعلها شورى بين المسلمين كلهم ؟ وهذا متناقض لا يستقيم. فأي ذلك قال انكسر عليه حتى يرجع إلى أهل الحق!
واعلم أن أَفْرضُ الفرائض وآكدها فرضٌ الإمامة؛ لأن جميع الفرائض لا تقوم إلا بها. ولا يجوز تبديل فريضة الإمامة بوجهٍ من الوجوه، لأن فيها من الإفساد ما ليس في غيرها.
وإن سألوا فقالوا: ما تقولون في الإمامة فريضة هي، أم سنة، أم تطوع ؟
قيل لهم: بل أَفْرَضُ الفرائض، وآكده في الفرض.
فإن قالوا: هل يجوز أن يخالَف في هذه الفريضة ( بوجه من الوجوه ؟
قيل له: لا. لأنه لو جاز أن يخالف فريضة لجاز أن يخالف الفرائض ) كلها ؟
فإن قالوا: فما وجه الإمامة عندكم ؟
قيل: وَجْهُ الإمامة موضع الإختيار من الله معدن الرسالة ليكون الموضع معروفاً. والدليل على ذلك أن الإمامة موضع حاجة الخلق، فلا يجوز أن تكون في موضع غير معروفٍ، إذاً بطلت الحاجة وضاع المحتاجون، وإذا كان ذلك كذلك فسد التبيين، ودخل الوهنُ في الدين؛ لأن الله تبارك وتعالى، وضع الأشياء موضع الحاجة، ووضع للمحتاجين ما فيه صلاحهم. ولو لا ذلك لفسد التدبير، وهلك الخلق.
والدليل على ذلك أن الله بعث الرسل لحاجة الخلق، ليبين لهم ما فيه صلاحهم، وإذا لم يبين لهم ما فيه صلاحهم هلكوا. فلذلك قلنا: لا يجوز أن تكون الإمامة بعد النبوة إلا في موضع معروفٍ لحاجة الخلق إليها، وإلا فسد التدبير وضاع الخلق.(2/103)

106 / 201
ع
En
A+
A-