فأما دليل فرضها من الزكاة، فمن قول الله جل ثناؤه :?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ? [التوبة: 103]. والأئمة مكان الرسول عليه السلام في أخذها، ووضعها بعد الأخذ في مواضعها، وإذا قيل : خذ فالأخذ غير شك ولا امتراء، قبل ما يكون من إعطاء أو إيتآء.
فهذا دليل على فرض الإمامة من الزكاة، إلى ما قدمنا بيانَه من فرضها بالصلاة.
وفي القرآن على من أبى الإمامة وإثباتها، حجة من الله في فرضه لها أثبتها، من ذلك قوله جل ثنآؤه في بني إسرآئيل:?وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ? [السجدة: 23]. وقوله سبحانه في إبراهيم صلى الله عليه :?إني جاعلك للناس إماما ? [البقرة: 124]. وما سأل إبراهيم منها لولدِه، وما رغب إليه سبحانه فيها من إبقائها فيهم من بعده، إذ يقول صلى الله عليه :?ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين? [البقرة: 124]. فأبى سبحانه أن يجعلها من ولده إلا للمتقين، فهذه خآصة الله لرسله في أبنائهم، وعطية الله لأبناء الرسل بآبائهم، وإذا لزم تنفيذ الأقسام والأحكام، وكان ذلك لا يكون ولا يقوم إلا بالإمام، لزم جميع الأمة، اتخاذ الأئمة، لزوما ليس منه بد، ولا عنه لأحد مصدٌّ، بحجج قوية مؤكدة لا تندفع، ولا يمتنع منها من المهتدين ممتنع، ولا يأبى قبولها إلا ضآل، ولا يجهل فيها حجة الله إلا الجهال، والحمد لله ذي الحجج البوالغ، والنعم الكثيرة السوابغ .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين .(2/84)
الإمام المفترض الطاعة
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألت: مَن الإمام المفترض الطاعة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فالإمام المفترض الطاعة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي ابن أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه، وقد ألفنا في ذلك كلاما من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، به يُعمل وبالحجة فيه يُهتدى.
وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ? ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى:11] وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما، والحمد لله الذي أكمل لنبيه عليه السلام الدين، الذي افترضه على عباده وبينه له، وافترض عليه إبلاغه، فكان مما افتُرِض على العباد طاعة الله، وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر، الذي يستحق مقام رسوله والإبلاغ عنه، وليس من الفرائض فريضة أكبر قدرا، ولا أعظم خطرا، من الإمام الذي يقوم مقام نبيه عليه وآله السلام، وقد بين ذلك في محكم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل الله تبارك وتعالى الإمامة في بيت الصفوة والطهارة والهدى والتقوى، من ذرية إبراهيم ولا يصلح في غيرهم، لقول الله تبارك وتعالى: ? إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ? [آل عمران:33 -34]. ثم قال لإبراهيم صلى الله عليه وسلم: ? إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ? [البقرة:124]. فأخبر أن الإمامة عهده الذي لا ينال ظالما، على معنى لا من أشرك بالله طرفة عين، ولا من أقام على ظلم، لأن الله لم يجعل لظالم عهدا.(2/85)
ثم أخبر بمن يستحق الإمامة من ذرية إبراهيم فقال: ? وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ? [الأنبياء:73]، وقال: ? وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ? [السجدة:24]، ثم أخبر بذرية إبراهيم فقال: ? وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم... إلى قوله: التواب الرحيم ? [البقرة:127-128]. ثم أخبر أن الأمة المسلمة التي استجاب الله فيها دعوة إبراهيم صلى الله عليه، وجعلهم شهداء على الناس، والشهداء على الناس الأنبياء ومن يخلف الأنبياء من الذرية التي جنبها الله عبادة الأصنام، وافترض مودتها. فقال: ? يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ...إلى قوله: شهداء على الناس ? [الحج:77-78]. ثم ذكر الله تبارك وتعالى الذرية المصطفاة الطاهرة من ذرية إبراهيم، التي استجاب فيها دعوته، فقال: ? وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا ... إلى قوله: لعلهم يشكرون ? [إبراهيم: 35-37]. فاستجاب الله تبارك وتعالى دعوة إبراهيم على لسان محمد صلى الله عليهما أجمعين فقال: ? قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور ? [الشورى: 23]، وقال لإبراهيم صلى عليه: ? رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت.... ? [هود:73] الآية، وقال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ? إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس [أهل البيت].... ? [الأحزاب: 33] الآية، فلا تصلح الإمامة لمن عبد صنما، لدعوة إبراهيم صلى الله عليه لبنيه الطاهرين المصطفين، فليس أحد من أهل بيت الطهارة والصفوة يشهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج من لدن آدم عليه السلام مِن ظَهْرٍ إلا وهو لنسبه الطاهر، حتى انتهت الطهارة في المولد إلى عبد الله وأبي طالب، لأن أمهما كانت واحدة،(2/86)
ثم شهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بالطهارة، والحسن والحسين وفاطمة، حيث أردف عليهم الكساء. ثم قال: ? إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ? [الأحزاب:33]، ثم أنزل الله على نبيه: ? وأنذر عشيرتك الأقربين ? [الشعراء:140]، فجمع بني عبد المطلب في الحديث المشهور وهم يؤمئذ أربعون رجلا. فقال: يا بني عبد المطلب كونوا في الإسلام رؤساء، ولا تكونوا أذنابا، فبدأهم بالنذارة قبل الناس كلهم، فقال: أيكم يجيبني إلى ما دعوته إليه إلى الإسلام، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، على أن يكون أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أهل بيتي، يقضي ديني وينجز موعودي ؟ فأجابه علي من بينهم وكان أصغرهم سنا، فضمه إليه ودعا له، فتفل في فيه، فقال أبو لهب: لبئس ما حبوت به ابن عمك حيث أجابك إلى ما دعوته، فملأت فمه بزاقا، فقال: بل ملأته فهما وعلما.(2/87)
ثم أورث الله تبارك وتعالى الكتاب أهل بيت الصفوة والطهارة، فقال: ? ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم ... إلى قوله: جنات عدن يدخلونها ? [فاطر:32-33]، فلميفرق الله بين الكتاب والحكم والنبوة فيما قص من خبر بني إسرائيل، فقال لمحمد عليه السلام: ? أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ? [النساء:54]، فكان علي عليه السلام أول من سبق إلى الإسلام من أهل بيت الطهارة والصفوة، لا ينازعه في ذلك أحد من بني عبد المطلب، ولا يستحقه دونه أحد، ثم دعا رسول الله عليه السلام عند حضور وفاته - وبنو عبد المطلب والمهاجرون والأنصار يؤمئذ عنده- فدعا بسيفه ودرعه وسلاحه ودابته وجميع ما كان له، حتى تفقد عصابة كان يعصب بها على بيضة الدرع، ثم دفع ذلك إليه صلوات الله عليهما، وبنو عبد المطلب شهود والمهاجرون والأنصار. ثم استخلفه بمكة حيث عزمت قريش على أن تُبَيّتَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه أويخرجوه، فاضطجع على فراشه فوقاه بادِرَةَ الحتوف بنفسه، وكان يأتيه بالطعام ليلا، وأمره [أن] يؤدي الأمانات التي كانت على يده، وأن يخرج إليه أهله، فنفد أمره ومشى مع أهله، حتى تفطرت قدماه دما.وخرج إلى تبوك واستخلفه وأعلمه أنه لا يصلح لخلافته إلا هو، وقال له: ( يا على أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ). ( وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر بعشر آيات من براءة إلى مكة فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال: إنه لا يصلح أن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ). ثم لم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوليه ولا يوليِّ عليه، ولم تَجْر سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علي أنه جعله تبعا لأحد من الناس.
ثم وجه إلى اليمن خالد بن الوليد على الجيش، فقال: ( إن اجتمع الجيشان فعلي أمير الجيش ). ثم دعا له حين وجهه إلى اليمن ( أن يهدي الله قلبه ويثبت لسانه ).(2/88)