فأيُّ ضياء أضوى، أوحجة لمحتج أقوى ؟ في إثبات الصفوة والفضل، لأبناء المنتجبين من الرسل، مما تلونا تنزيلا مبانا، أنزله الله في منزل وحيه قرآنا، لا تعارضه شبهة لبس، ولا يلتبس على ذي ارتياده ملبس، ولكن اقتطَع الناس دونه، وحال بين العامة وبينه، جورُ أكابرهم في الحكم، واعتساف جبابرتهم فيه بالظلم، فأَعينُ العامة في غطاء عن مذكوره، وقلوبهم ذات عمى عن نوره، فمعروفه لديهم مجهول، وداعيه فيهم مرذول، إن لم يقتل عليه، عظم تعنيفه فيه، ولم يَعُدوا – من جهلهم بفرضه، وما هم عليه من رفضه ـ سبيلَ ما هم عليه، وما أمسوا وأصبحوا فيه، من جهل غيره من الحقوق وتعطيلها، ومحو أعلام الدين وتبديلها.
فالله المستعان في ذلك وغيره، وإياه نسأل تبديل ذلك وتغييره، والحمد لله الذي جعلنا لخاتم المرسلين، وبقية من مضى من رسله الأولين، عترة وبقية، وآلاً وذرية، إبتداء لنا في ذلك بعظيم فضله، ومنًّا علينا فيه بولادة خاتم رسله، من غير قوة منا ولا حول، ولا صالح من عمل ولا قول، فجعلنا راجين رجاء أبناء المرسلين بآبائهم، وما كان من حفظ الله للنبيئين في أبنائهم . فكفى بهذا في دلالة القرآن دليلا على الإمام، وما وَلِيَ الله لرسله في ذلك وبه من الإكرام، منظرا لمنصف معتبر، ومعتبرا به لحكيم مفكر .(2/79)


[صفات الإمام]
فاسمع لقول الله سبحانه في تفصيل الحكمة، وما خص به من جعلها فيه من التقدمة، إذ يقول في داود صلى الله عليه: ?وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ? [ص: 20]. وقال فيه، صلى الله عليه :?وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ? [البقرة: 251]. فمتى ما وجد الملتمسون، وأصاب عند الطلب الطالبون ـ مَنْ هاتان الخلتان فيه كاملتان، وهذان الدليلان عليه مبينان ـ حقت إمامته وصحت، وبانت الحجة لأوليائه فيه ووضحت، ولم يكن لطالب إمامة تعدِّيه، ولم توجد الكفاية أبدا إلا فيه، والعلة التي بها ولها، ومن أجلها، كانت القرابة والحكمة على الإمام دليلا، وإلى وجوده عند الحاجة والطلب سبيلا.
إن مطلبه في القرابة أسهل على الطالبين، وأيسر في تكليف فرضه على المكلفين، وأقطع لعذر المعتلين، وأبلغ في الحجة على المتجاهلين، وأقرب إلى متناول البغية، إذ لا يمكن تقريبها بالتسمية، والدولةُ دولة الجبارين، مَخُوفٌ فيها قتل الأبرِّين .(2/80)


[طريق الإمامة]
ولو كان - الأمر في الإمامة كما قال المبطلون فيها، وعلى ما زعموا من أنهم الحاكمون بآرائهم واختيارهم عليها، وأن الخيرة فيها ما اختاروا، والرأي منها وبها ما رأوا - لكان في ذلك من طول مدة الالتماس، وما قد أعطبوا بقبحه وفساده من إهمال الناس، ما لا يخفى على نظرة عين، ولا تسلم معه عصمة دين، ولصاروا إلى ما كرهوا من فساد الاهمال، ولتعطل في مدة الطلب أكثر الأحكام، من الجمَع والأعياد، والدفع والجهاد، وقذف المحصنات، ومكابرة المؤمنات، ولسقط حد الزاني والزانية، وكل حكم خصه الله بالتسمية .
ثم لَمَا كان لِمَا هُمْ فيه من الطلب غاية تُعرف، ولا للغرض فيه نهاية ينتهي إليها المكلف، ومن شأن الله تيسير كُلَفِه، وتقريب تعريف مُعرِّفِه، كنحو من تكليفه، وما كان من تعريفه، جل ثناؤه لنفسه، بما بين السماء والأرض من خلقه، وما عرف من رسله، بتواتر أعلام دلائله، وكقوله :?ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ? [الحج: 78]. وكقوله :?يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ? [البقرة: 185]. فقالوا : نختار لإمامتنا وديننا، أوثقنا لذلك في أنفسنا. فقلنا : لستم تختارون ذلك لأنفسكم، دون اختياركم فيه على ربكم، فلله الخيرة لا لكم. يقول الله جل ثناؤه :?وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ? [القصص: 68]. وقال تعالى :?وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ? [الأحزاب: 36]. يقول جل ثناؤه : إن يختاروا هم فتكون الخيرة لهم، والله ما جعل إليهم الخيرة فيما خوَّلهم، ولا فيما جعل من أموالهم لهم، فكيف تكون إليهم الخيرة في أعظم الدين عِظما، وأكبره عند علماء المؤمنين حكما .(2/81)


ثم قلنا لهم: مَنْ المختارون منكم للإمام ؟ الخوآص منكم أم العوآم ؟
فإن قالوا لخوآصنا.
قلنا: مَنْ خوآصكم ؟
وإن قالوا: لعوآمنا.
قلنا: ومَن عوآمكم ؟ أَخَوآصُّكم إنسان أم إنسانان ؟ أم بلد خآص مِن البلدان ؟ وعوآمكم أَكُلُّكُم ؟ أم الأكثر منكم ؟!
فإن قلتم : ذلك إلى كلنا وكلنا يختار، فذلك ما لا يمكن لما فرقت منكم الأقطار، مثل الصين وفرغانة، ومن بالأندلس وغانة، ومن يحدث فيكم، وينقص كل يوم منكم، فالإمامة لا يمكن عقدها، ولا يصاب بالعقل رشدها، إذا كانت إنما تكون، ويتم لها بزعمكم الكون، باختيار جميعكم، وإجماع كلكم، وذلك غير ممكن أصلا، فالإمامة غير ممكنة اضطرارا.
وقد زعمتم أن الله كلفها خلقه، وأوجب على الناس فيها حقه، فقد كلف الله الخلق عندكم غيرَ ممكن، ومُكلِّفُ ما لا يمكن جاهل غير محسن، ومن الله سبحانه كل حسنى ! وله المثل الأجلُّ الأعلى ! سبحانه أن يكلف أحدا من خلقه غيرَ ممكن، وتبارك أن يكون في صغير من الأمور أوكبير غير محسن !!!
وإن قلتم: اختيار الإمام، للخآصة منا دون العوآمَ.
قلنا: ومَن تلك الخآصة منكم ؟ وما الذي يبينها للاختيار دونكم ؟!
فإن قالوا: علمها وفضلها.
قلنا: ومن الذي يعرف ذلك لها ؟! وما حد ذلك فيها ؟ وما شاهد دليله عليها ؟!
فإن قالوا: يعرف ذلك منها عوآمها.
قيل: ولِمَ لا تعرف العوآم مَن يؤمها ؟ وفضله أكثر من فضل فضلائها، وعلمه فوق علم علمائها، وإذا عرفت العوآم من ذلك الأقل فهي بمعرفة الأكثر أولى، وإذا بان لها فضل العلماء وعلمها فبيان فضل الإمام وعلمه أبين وأعلى !!
وإن قالوا: تعرف ذلك العلماء لأنفسها.
قيل: وكيف يصح ذلك عند غيرها بصحته لها ؟! أو يتبين عندهم تبيانَه عندها ؟ وإذا كانوا هم الحجة على الأمة، فيما يجب عليها من طاعة الأئمة، فهل يجوز أن تكون بهم الأمة جاهلة ؟! إلا كانت وهي عن هدى ما كلفته ضآلة.
فإن زعموا أن الأمة عارفة بهم.
سئلوا: ما معرفة الأمة لهم ؟(2/82)


فإن قالوا: علمهم وفضلهم . فقد فرغنا من هذا فيما قدمناه لهم، وإن قالوا ذلك بمعرفة أعيانهم، فأي عجب في ذلك أعجب من شأنهم، إن زعموا أن مَن دون الإمام من رعيته، مدلول عليه في حكم الدين بتسميته، وأن الإمام غير معروف بتسمية عين، ولا محكوم على أحد بمعرفته في دين !!
ويقال لهم: مَن المحكوم بمعرفة اسمه ؟ وتنفيذ ما حكم به من حكمه ؟ الأئمة أم العلماء ؟
فإن قالوا: العلماء، فكلهم عندهم بالإمامة أولى، إذ كان مقامهم في الفضيلة أعلى.
وإن قالوا: الأئمة، أولى بالمعرفة.
قيل لهم : فما بالكم لم تكتفوا بتلك منهم ؟ وتسألوا دلائل الله عليهم عنهم ؟!
فإن هم ردوا علينا المسألة. قلنا: قولوا ما شئتم أن تقولوا، واسألوا فيمن الإمامة ومن تجب له عما أردتم أن تسألوا، تجابوا - والحول والقوة لله معا - جوابا فيما تسألون عنه قصدا مجتمعا.
فإن قالوا: من أين زعمتم أن الإمامة واجبة العقد ؟ ولم يبيِّن الله في كتاب ولا سنة فيها ما أبان في غيرها من عهد ؟! ولو كان ذلك عند الله كما قلتم، وكان وجوبه في دين الله بحيث أنزلتم، لكان فرضه مبانا ! ولنزَّل به قرآنا ! كما نزل بالصلاة، وفرضِ مؤكَّد الزكاة ؟!
قلنا: فمنهما بعينهما، ومن بيان فرض الله فيهما، صح فرض الإمامة، وأنها هي أولى منهما بالتقدمة، فَأَقبِلُوا قبل الاستماع، وتفهموا فإن الفهم سبب الانتفاع، قال تعالى :?يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع? [الجمعة: 9]. وإنما تكون الجُمع جُمعا، إذا كانت هي والإمام معا، بل ربما تقدمها فكان أَمامها، كتقدم الرسول عليه السلام لفرضها ولحكمها، ومن كانت تعقد له فمتقِّدمٌ قبل تقدمها، مع أنه إذا صح أنها إنما تكون بالأئمة، لهم عليها معقول التقدمة، فهذا دليل فرض الإمامة من الصلاة .(2/83)

102 / 201
ع
En
A+
A-