[طبقات حياة الخلق]
وكذلك هم في الخلق، مُجْرَوْنَ في طبق بعد طبق، مصرفون مدة بقائهم، بين طبقات ثلاث إلى حين فنائهم، لا يخلون منها، ولا مُنصرَف لهم عنها.
أما الأولى منها: فطبقة التربية.
وأما الثانية: فطبقة اعتمال الأغذية.
والثالثة: فاكتساب الحسنة والسيئة.
فهم في أولى طبقاتهم مكتفون بالآباء، وفي الثانية مستغنون عنهم بالاكتفاء، مؤدبون على المعرفة بحد الأغذية والبذور، والفرق بين الضآر والنافع فيها من الأمور. والثالثة فمحتاجون ما كانوا فيها، وعند أول مصيرهم إليها، إلى مرشد ودليل، ذي عقاب وتنكيل ؛ ليكون ما أريد بهم من البقاء، وخلقوا له من عمارة الدنيا، وذلك عند بلوغ قوة الاحتلام، وحركة شهوة ملامسة الإلمام، لما بني عليه الناس من شهوة النساء، لما في ذلك من زيادة النسل والنماء.
وكل ذلك من اعتمال الأغذية، وما خُصَّ به الإنسان من الشهوة في البنية، فلا بد فيه، وفي الدلالة عليه، من مرشد معرِّف، ومُحِدِّدٍ مُوَقِّف ؛ لأنه لو ترك الناس في الغذاء، وما رُكِّبوا عليه من شهوة النساء، بغير حد معروف، ولا فرضِ عزمٍ موصوف، لم يكن أحد بمعتمله، وما ملَّكه الله من أهله، أولى عند المكابرة من أحد، إذًا ولما فُرِّق بين سيِّد وعبد، ولو كان ذلك كذلك، لَصِيرَ به إلى الفناء والمهالك، ولما أنسل ولا اغتذى ضعيف مع قوي، ولا سلم رشيد من الخلق مع غوي، ولبطلت الأشياء، وفسدت الدنيا، ولكنه جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه، جعل للناس في البَديِّ والدا، وحد لهم به في الأشياء حدا، أَدَّبهم جميعا عليه، ونهاهم عن المخالفة له فيه .(2/69)


[حكمة التشريع]
ثم جعل للمتأدبين فيه بأدبه ثوابا، وعلى المخالفين إلى ما نهاهم عنه عقابا، فكان كل إنسان أولى بمعتمله، وأحق بما ملكه الله من أهله، ولو تُرِكوا فيه بغير إبانة دليل، أو كانوا خُلُّوا في خلافٍ له من التنكيل، لوثب بعضهم فيه على بعض، ولفني أكثر من في الأرض، لما يقع في ذلك من الحروب، واغتصاب النساء والنهوب، ولكان في ذلك لو كان من الفساد، في معرفة الرحم والأولاد، ما يقطع تعاطف الرحمة، وما جعله الله سببا للنسل والتربية، إذ لا يعرف والدٌ ولدا، ولكنه وضع للنكاح في ذلك حدا، بَيَّنَ كنهه ومداه، ونهى كل امرؤ أن يتعداه ؛ ليعرف كل إنسان ولده فيغذُوَه، وتعطِفه رأفة الأبوة عليه فلا يجفوَه ولايعُدوَه، وكذلك ليتم ما أريد بالناس من التناسل والبقاء، إلى غاية ما قدر لهم ودُبِّر من الإنتهاء.
وإذا كان - الناس على ما ذكرنا مأمورين في الغذاء، ومحدودة لهم وعليهم الحدود في مناكحة النساء - لم يكن لهم أن يتناولوا من ذلك شيا، رفيعا كان منه أو دَنِيًّا، إلا على ما جعل الله لهم، وقدَّر بحكمه بينهم. وإذا كان ذلك كذلك، وحكم الله فيه بما حكم به من ذلك، لم ينل طالب منهم مطلوبه، ولم يدرك محب فيه محبوبه، إلا بشديد معاناة، وعسير مقاساة، من العلاج والاعتمال، وحركة كسب الأموال، التي بها يوصل إلى مطلوب الغذاء، ويوجد السبيل إلى محبوب مناكحة النساء. ثم ليس لهم تناول معتمل، ولا حركة في عمل، حَرُمَ تناوله عليهم، أو حكم بخلافه فيهم .(2/70)


ثم إذا صاروا إلى النكاح على ما أمروا به إلى الحد، لم يلبثوا أن يصيروا إلى عيال وولد، يحتاجون لهم إلى أقوات التغذية، وأنواع ضروب متاع التربية، مع حاجتهم للأولاد والأنفس، إلى ما يحصنهم من الحر والبرد من الملبس، وما يستر عورات الرجال والنسوان، وما يظلهم من سواتر الأكنان، وما يحتاجون إليه من اتخاذ الأبنية، وما لابد لهم منه من أمتعة الأفنية، وكل ذلك من حوائج الإنس، يدخل فيه منهم أشد التنافس، لما يعم جميعهم من الحاجة إليه، ولظاهر ما لهم من المنافع فيه، فلا بد في كله، وجميع ضروب معتمله، من أن يقاموا فيه على حد معلوم، وأن يلزمهم فيه فرضُ حكمٍ معزوم، وإلا اقتتلوا عليه وتواثبوا، وتناهبوا فيه واغتصبوا، وفنوا فلم يبقوا، وصاروا إلى خلاف ما له خلقوا .
ولماَّ كانوا إلى ما ذكرنا مضطرين، وفي أصل الفطرة عليه مفطورين، تفرقوا في أنواع الصناعات، واحتالوا للمكسب بضروب البياعات، فلم يكن لهم عند ذلك بد في البَديِّ الأول من مُعلِّم يقوم عليهم، ويبين لهم أقدار مواقع مصالح ذلك فيهم ؛ ليتعاملوا بها وعليها، ويصيروا إلى مصالحهم فيها، وإلا فسدوا وفنوا، وهلكوا ولم يبقوا .(2/71)


[صفات المرشد ووجوب الثواب والعقاب]
ثم لابد لمعلمهم، ولولي أدب تعليمهم، من أن يكون عالما بجهات منافع الأشياء، مأمونا عليهم في الدين والدنيا، لأنه إذا كان على غير ذلك كان مثلهم، يسيء ويجهل في الأمور جهلهم، ثم لا يكون مع هذا يجب عليهم اتباعه، وقبول ما تقدم من أمره واستماعه، مع ما يدعوهم إليه من الكف عن كثير مما يحبون، ويأمرهم به من الدخول في كثير مما يكرهون، إلا بأن يكون لهم في خلافه مُخِّوفا بعقاب، وفي الانتهاء إلى معهود أمره مُوجِبا لثواب .
وذلك أنه لا يكون أن ينقادوا له، حتى يؤدبهم ويقبلوا قوله، إلا بافتراق درجة المطيع والعاصي، وتباين مكان المحسن عنده والمسييء، وذلك فما لا يدخله تَفُّرق، ولا يفرق بينه مُفرِّق، إلا من حيث قلنا، وعلى ما مثلنا .(2/72)


[معجزات الأنبياء]
ولا يكون مخوفا للعاصي بعقابه، ولا داعيا للمطيعين إلى ثوابه، إلا بدلائلِ أعلامٍ بينة، تُفرِّق بين المدعي منزلته وبينه، ولا يجوز أن تكون أعلامه مما يُقدَر على مثلها، فلا يؤمن على فعلها وممكن نيلها، مُدَّعِي منزلته ظلما وعدوانا، وفسقا وطغيانا. ولا تكون الدلالة عليها، وشاهد علمِ الإبانة فيها، إلا من الله لا يُحدِثُ غير الله خلقها، ولا يحسن سوى من هي عليه دلالة تَخَلُّقَها، وكانت من الله كغيرها، من دلائله في ضوء منيرها، وإسفار نور مبينها، وإبانتها من الأئمة بعينها، وانقطاع عذر المُعْتَلِّين على الله في رفضها، بعقد لو كان منهم لِمَا نُصب من علم دلائل فرضها.
وكذلك فعل الله بالرسل صلوات الله عليها وأوصيائها، وإبانتهم من غيرهم بنور دلائله وضيائها .
ثم فرق جل ثناؤه بين الرسل والأوصياء، ومن يحدث بعدهم من خلفاء الأنبياء، في علم الدلائل والحجج، بقدر ما لهم عند الله من الدرج، فجعل دلائل المرسلين، وشاهد أعلام النبيين، أكبر بيانا، وأقوى سلطانا، وأفلج في الحجة للمستكبرين، وأقطع لأعاليل عذر المعتذرين.
فكان من ذلك عجائب موسى صلى الله عليه، في فلق الله له ولمن كان معه البحر وممرهم فيه، إلى ما كان مِن قبل ذلك من عجيب آياته، وما أرى المصريين من فعلاته، في الضفادع والقمل والدم، وما يَعظُم قدرُ مبلَغِه على كل مُعظَّم.
وعجائب عيسى عليه السلام، التي كانت تضل في أصغرها الأحلام، من إحيائه الموتى، وإبرآئه للكُمهِ والبرصى، وإنبآئه لهم بما يأكلون وما يدخرون، وإخباره لهم عن كثير مما يضمرون .
ثم آيات محمد صلى الله عليه، وما نزَّل من حكمةِ وحيه إليه، التي لم يقو لمكافاته فيها من أضداده ضد، ولم يكن لحكيم منصف عند سماعها من قبولها بد، مع عجيب آياته، في الشجر وإجابته، وما كان من شأن الشاة المسمومة، وإنبائه بسرائر نجوى الغيوب المكتومة، وإطعامه من قبضة كف، لأكثر من ألف وألف.(2/73)

100 / 201
ع
En
A+
A-